عباس جواد كديمي
أستاذ بقسم اللغة العربية بجامعة الاقتصاد والتجارة الدولية في بكين
يصادف هذا العام 2023، الذكرى الـ65 لإقامة العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية العراق. في الـ25 من أغسطس عام 1958، أقيمت العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين، وظلت تنمو وتتطور منذ ذلك الحين. الشعبان الصيني والعراقي شعبان حضاريان، وكل من حضارتيهما قد أسهمت في تطور الحضارة البشرية. والشعبان تجمع بينهما علاقات ودية تاريخية قديمة جدا، تعود إلى نحو ألفي سنة، وعلاقاتهما الحالية والمستقبلية تتمتع بآفاق مشرقة. كلا البلدين لديهما الرغبة الحقيقية للتعاون. العراق لديه رغبة واستعداد للتعاون البنّاء، والصين مستعدة أيضا ولديها إمكانيات هائلة بكافة المجالات، وهذه الإمكانيات تسعى للمنفعة المشتركة، والدخول في مشاريع تعاونية ثنائية المنفعة، أو حتى متعددة الأطراف، على أساس الاحترام المتبادل والتشاور والتنسيق.
الذكرى الـ65 لتأسيس العلاقات بين الصين والعراق، تدعو للمزيد من الجهد والعمل الفعلي لتعزيز التعاون بما يخدم المصالح التنموية في البلدين. العراق يتخلص من فترة كانت مُكبّلة لإمكانياته الحقيقية، ويتعافى وينمو ويتطور، وله علاقات بناءة مع محيطه الإقليمي والعالمي، وفي موقع حيوي بمنطقة هامة بالعالم، ويتمتع بموارد عديدة، وملايين الشباب والكفاءات الطموحة. والصين تنمو وتزدهر وتتعزز قوتها الوطنية الشاملة، وهي الآن ثاني أكبر اقتصاد بالعالم، وتتمتع بعلاقات طيبة مع العراق، ويتزايد أصدقاؤها في العالم.
مناسبة الذكرى الـ65 لإقامة العلاقات بين الصين والعراق، تؤكد مجددا ضرورة تعزيز التعاون بين البلدين، ودفع تنفيذ المشاريع المشتركة بينهما. المزيد من التعاون لا يعني توطيد التقارب رسميا ودبلوماسيا وشعبيا، وزيادة فرص العمل التعاوني، فحسب، بل يعني أيضاً تحريك المزيد من فرص التعاون والتواصل بالمجالات الثقافية والعلمية والتقنية. فإلى جانب قطاع الطاقة المعروف بكونه ركيزة أساسية للتعاون الحالي بين البلدين، لنأخذ جانبا واحدا آخر، على سبيل المثال لا الحصر، وهو جانب اللغة. فزيادة التعاون والتقارب في تنفيذ المشاريع بين العراق والصين، يعني زيادة الطلب على مَن يمكنهم الحديث باللغتين العربية والصينية، وهذا عامل محفز للشباب على تعلم لغة الجانب الآخر، ما يعني أيضا المزيد من فرص التعارف والتبادل الثقافي بين الشعبين. التواصل الشعبي من أهم قنوات تعزيز العلاقات بين الدول على مرّ العصور. حاليا، الصين تقدم 40 منحة دراسية سنويا للطلاب العراقيين، والعراق بدوره يخصص مقاعد دراسية في معاهد اللغة العربية للطلاب الصينيين الراغبين بدراسة اللغة العربية؛ وإذا تعززت العلاقات الدبلوماسية والتعاونية أكثر فأكثر، فستبرز بالتأكيد فرصة للحديث عن مزيد من المنح الدراسية للطلاب العراقيين، وكذلك المزيد من الفرص التدريبية للموظفين والفنيين العراقيين في معاهد الإدارة والخدمات الفنية والتقنية بالصين، وهو ما يحدث فعلا سنويا، ولكن هناك أيضا تطلعات للمزيد من أجل رفع مستوى إمكانيات العلوم والتكنولوجيا والمكننة والتصنيع والإنتاج بالعراق.
خلال الفترة الممتدة لنحو 26 عاما متواصلا من عملي وإقامتي في الصين، شهدت بعيني التطورات الملموسة فيها، وتعزّز مكانتها بالعالم، وهي حقيقة تدفع كل إنسان حريص على أن يتمناها للناس الطيبين في كل مكان بالعالم. إن نمو الصين وتعزّز مكانتها في كافة المجالات، أساسه الحقيقي هو اعتزاز شعبها بالجدية بالعمل والتطلع للبناء المثمر، وإدراكه أن ذلك لن يتم إلا من خلال صيانة السلام والاستقرار في داخل الصين، وخارجها. الصين حققت معجزتين توأمين هما التنمية والاستقرار على مدى عقود، وهاتان المعجزتان تحظيان باهتمام وإعجاب العالم. وأنا شخصيا، أتطرق هنا لهاتين المعجزتين، من أجل التأكيد على أن التنمية في الصين، لم تكن لتتحقق لولا حرص الصين على البيئة السلمية داخليا وخارجيا. الصينيون يدركون جيداً أهمية السلام، لأنهم عانوا الأمرّين من النزاعات والحروب والغزو والنهب الاستعماري. وكم نتمنى مخلصين لو تدرك كل بلدان العالم، أهمية السلام والاستقرار وتحرص عليهما.
وبما أن البلدين يستقبلان هذا العام الذكرى الـ65 لإقامة العلاقات الدبلوماسية الرسمية بينهما، هناك أمل قوي للعمل معا على توطيد هذه العلاقات الطيبة والتقارب أكثر بين العراق النامي، والصين التي تمد ذراعيها للتعاون ومشاطرة تجربتها التنموية مع العراق الذي يمكنه في الوقت نفسه، أن يعمل على تحقيق التوازن في علاقاته مع محيطه العربي ودول جواره، والدول الأخرى، وتوطيد أرضيات التعاون مع كافة الشركاء في العالم.
الصين تسعى للتعاون مع كل من يرغب به على أساس الاحترام المتبادل، وقد طرحت في عام 2013، مبادرة هامة هي الحزام والطريق، والعراق مؤهل لأن يلعب دورا كبيرا فيها بفضل موقعه الجغرافي وتطلعاته التنموية. والصين تدرك هذه الأهمية، ومستعدة تماما لدعم المشاريع بالعراق ضمن هذه المبادرة. العراق يمر حاليا بفترة حاسمة، والكثير من شباب العراق بحاجة لفرص العمل والتطور والنمو. ومما لا شك فيه، أن الانشغال بالعمل المثمر هو وصفة فعّالة لبناء مجتمع كريم يسهم إيجابيا للبلاد ونموها وتطورها، وهو أيضا وصفة فعالة تبعد عن الناس مشاكل البطالة. التعاون مع الصين يحفظ للعراق الكثير من استقلالية قراره وصيانة شئونه الداخلية، بحيث يعمل وفقا لواقعه وعلى ضوء احتياجاته الفعلية وإمكانياته، فالصين لا تضع شروطا مسبقة للتعاون، وتؤكد ضرورة التشاور العملي قبل أي موافقة أو تنفيذ لمشاريع.
هذا العام يصادف أيضا الذكرى العاشرة لطرح الصين لهذه المبادرة التي تعتبر مشروعا تنمويا هائلا، يشارك فيها حتى الآن، أكثر من 150 بلدا بالعالم، أي نحو 75 بالمائة من سكان كوكب الأرض، وبما يمثل أكثر من نصف إجمالي الناتج المحلي للعالم. والعراق شريك طبيعي للصين، وبموقع ممتاز يؤهله للعب دور حيوي قوي على طرق هذه المبادرة.
ولدينا هنا تحديدا معادلة تكاملية بين العراق والصين؛ فالعراق لديه موارد الطاقة، وخاصة النفط، ويحتاج بصورة مُلحة للبناء وإعادة الإعمار. والصين بحاجة للنفط ولديها الإمكانيات الهائلة للبناء والاستعداد التام لتنفيذ مشاريع التعاون؛ والعراق يتمتع بعلاقات ودية تاريخية معها، وهذا يعني أن الأساس صلب وممهّد لمزيد من التعاون ضمن إطار هذه المبادرة.
هناك العديد من العوامل التي تشجع على مزيد من التعاون بين الجانبين، منها حرص الصين والعراق على مزيد من التقارب التعاوني، وحقيقة أن الشركات المملوكة للدولة في الصين، لا سيما العاملة بمجال الطاقة، قد أثبتت كفاءتها واستعدادها للعمل الجاد، على عكس العديد من الشركات الغربية التي أظهرت ترددا للعمل بالعراق، وقللت فعلا تواجدها واستثماراتها بالعراق.
ورغم كثرة الشركات العالمية العاملة في العراق وتنوع مجالاتها، ولكن ينبغي الاستذكار هنا أن الصينيين هم الوحيدون الذين ظلوا يعملون بمشاريع متعاقد عليها في العراق، رغم المخاطر الناجمة عن فترة حسّاسة تمثلت باحتلال الإرهاب للموصل والمحافظات الغربية عام 2014، ولم ينسحبوا أو ينقضوا تعهداتهم بأعمالهم، بعد أن غادر جميع الأجانب العراق.
وعلى صعيد التعاون الملموس بين البلدين، فالصين ضخّت العام الماضي 2022، نحو 10 مليارات و500 مليون دولار لاستثمارات عقود بناء في العراق، بما يجعل العراق أكبر متلق للاستثمارات الصينية في المنطقة. والصين حالياً هي أكبر شريك تجاري للعراق، والعراق ثالث أكبر شريك تجاري لها بين الدول العربية، وكانت قيمة التبادل التجاري بين البلدين خلال العام الماضي، أكثر من 53 مليار دولار، بزيادة 43.1 بالمائة على أساس سنوي، وفقا لأرقام من السفارة الصينية في بغداد. وبلغت قيمة ما صدرته الصين للعراق 13.99 مليار دولار خلال عام ٢٠٢٢، بينما كانت قيمة صادرات العراق إلى الصين 39.355 مليار دولار في العام نفسه. وهناك ميزة إيجابية ملحوظة في هذه العلاقات، تجعلها مختلفة عن الكثير من العلاقات التجارية للصين مع معظم شركائها في العالم، وهذه الميزة هي التوازن النسبي في الميزان التجاري، رغم أنه في أرقام عام 2022، يميل لصالح العراق، ومع هذا فهو إشارة صحية لمزيد من تطوير العلاقات على كافة الأصعدة. ورغم أن الأرقام مهمة جدا خلال الحديث عن مستوى العلاقات بين الدول حالياً، ولكن الإمكانيات الفعلية يمكن أن تكون أكبر من الأرقام بكثير.
وبمناسبة الذكرى الـ65 لإقامة العلاقات بين العراق والصين، أودّ التأكيد على حقيقة نكتبها هنا لتبقى علامة بارزة على طبيعة العلاقات الودية بين الشعبين منذ عشرات السنين، وهناك قصة واقعية يتناقلها الصينيون، وخاصة أجيال الأربعينات والخمسينات والستينات، ممّن درسوا بالجامعات العراقية، وهي قصة تجسّد عمق العلاقات بين الشعبين العراقي والصيني، ولا بأس هنا أن نروي تلك القصة الواقعية الطريفة التي حدثت بين الشعبين، ويتذكرها الصينيون بتقدير كبير، ولكن معظم العراقيين قد لا يعرفونها. وهي أنه خلال فترة نهاية الخمسينات من القرن الماضي، عانت الصين من ظروف اقتصادية صعبة، وعانى الكثير من مواطنيها من ظروف قاسية أشبه بمجاعة حقيقية. حينئذ، بادرت الحكومة العراقية برئاسة الراحل عبد الكريم قاسم، لدعم الشعب الصيني من خلال إرسال عدة بواخر محملة بالتمور العراقية، وهي المساعدة الممكنة في حينه. يقول الصينيون إن تلك التمور كانت نعمة كبيرة وحلاوة لا يمكن أن تُنسى. وظلّ في بال الكثير من الصينيين حتى اليوم، أن كلّ التمور بالدنيا، أصلها عراقي، وكل طعم حلو مرتبط بالتمر العراقي. إنها قصة حقيقية تجعل معظم الصينيين يكنون مشاعر محبة واحترام للعراق وللعراقيين. وهناك حالة شبه عامة بين الصينيين وهي أنهم حالما يعرفون أن الشخص عربي من العراق، فإنهم يرفعون إشارة الإعجاب بالإبهام، دلالة على تقديرهم لحضارة وادي الرافدين، واحترامهم لقوة وجَلد وصبر وصمود العراقيين على مدى عدة عقود مضت من التاريخ الحديث. هذه المشاعر حقيقية، وأساسها هو العمق الحضاري والعلاقات الودية التي لم تشبها شائبة بين البلدين.
في الفترة بين عامي 2006 و2007، وعلى ضوء ما لمسته من مشاعر لدى الصينيين تجاه العراقيين، تبادرت لذهني فكرة السعي لإحياء جمعية الصداقة العراقية - الصينية، وكان تفكيري مُنصبا على أمنية عميقة وهي أن تسهم إعادة إحياء هذه الجمعية بتهيئة الأجواء والأسس لتبادلات شعبية ثقافية وتعليمية أوثق وأكثر نضجا بين الشعبين، بحيث نرى المزيد من الطلاب العراقيين يدرسون في الجامعات الصينية، والمزيد من الطلاب الصينيين يدرسون بالجامعات العراقية، ويطوّرون أنفسهم، ثم يواصلون العمل جيلا بعد جيل، لمواصلة توطيد العلاقات المثمرة بين الشعبين.
الصين مهتمة جدا بالتواصل الحضاري والثقافي مع شعوب العالم، ولذلك، قامت بفتح معاهد كونفوشيوس لتعليم اللغة الصينية ونشر ثقافتها، بالكثير من المدن العربية، ولكن العراق لا يزال يفتقر لمثل هذه المعاهد. الأوضاع في العراق تتطور للأحسن بشكل ملحوظ، وفيه العديد من الجامعات في مدن بغداد وأربيل والبصرة والأنبار والموصل وبابل، على سبيل المثال لا الحصر، مهيأة لاستقبال مثل هذه المعاهد.
وعلى ضوء علاقة الشراكة الإستراتيجية التي أقامها البلدان في ديسمبر، عام 2015، هناك الكثير من المضامين والاتفاقات والتعهدات الواردة في الشراكة الإستراتيجية، مازالت بحاجة لمزيد من التفعيل، وهذه طموحات مشروعة لا سيما في وقت تدخل فيه علاقات البلدين عامها الـ65، والأمل يتعزز بأن تزداد التبادلات الرسمية بين البلدين على أعلى المستويات، وتتعزز الأواصر سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وفي التعليم والصحة والإعلام وتدريب الكوادر وتطوير الإدارة، وتتوسع مجالات التعاون الحالية المركزة على قطاعي النفط والطاقة، وتتعمق وتمتد لمجالات أخرى وردت أصلاً في اتفاقية الشراكة، ولا بد من متابعة هذه الاتفاقات والتعهدات وتفعيلها على طريق تنفيذها والسعي لجني ثمارها. وهذه المجالات تحديداً هي "زيادة التبادلات الرفيعة المستوى وتعزيز التواصل الإستراتيجي حول العلاقات الثنائية، بما يوسع الأرضية المشتركة ويرسخ الثقة الإستراتيجية المتبادلة بشكل مستمر، ويواصل الجانبان تعزيز التواصل والتعاون من أجل تعزيز الفهم المتبادل. ويؤكد الجانب الصيني دعمه لإعادة الإعمار الاقتصادي في العراق والمشاركة الفعالة فيه خاصة بالمجالات ذات الأولوية والتي لها علاقة بحياة الشعب." إن هذه الفقرة الواردة بين قوسين صغيرين، مأخوذة من نص اتفاقية الشراكة الإستراتيجية بين البلدين.
العراق حاليا في أمسّ الحاجة لمواكبة العصر والتطور العلمي السريع بالعالم، والصين صديق موثوق وشريك جيد ويمكنها تعزيز التعاون مع العراق في تحديث البنية التحتية بكل أنواعها، ومنها الجامعات ومعاهد البحوث والتطوير، وبناء القدرات والإمكانيات، ودفع الابتكار التكنولوجي بما يعزز التنمية الاقتصادية والاجتماعية في العراق.
وبفضل الأرضية الصلبة للعلاقات التاريخية بين البلدين، وعلاقة الشراكة الاستراتيجية بينهما، واستعداد قيادة البلدين لمزيد من التقارب والتواصل والتطوير، يرى المتابعون أن هذه العلاقات تتمتع بمستقبل طموح يحمل الكثير من الأشياء الرائعة للبلدين وشعبيهما، وأن علاقات التعاون ستتكلل بمزيد من النجاح والنتائج الملموسة.