الصفحة الرئيسية >> العالم العربي

رسالة من الشرق الأوسط: الحرب في السودان .. التنقل عبر روح أمة مجزأة

/مصدر: شينخوا/   2025:03:06.09:16
رسالة من الشرق الأوسط: الحرب في السودان .. التنقل عبر روح أمة مجزأة
في الصورة الملتقطة يوم 15 ديسمبر 2024، مشهد لأشخاص نازحين من منطقة السامراب داخل مدرسة في حي الأهْمَدة بمدينة بحري، شمالي العاصمة السودانية الخرطوم. (شينخوا)

بقلم: فائز الزاكي حسن

الخرطوم 5 مارس 2025 (شينخوا) كانت فوهة البندقية تلمع تحت شمس الصحراء القاسية، وعلى غطاء محرك سيارتنا طراز تويوتا لاند كروزر، كانت أغراضي..الكاميرا والكمبيوتر المحمول والهاتف.. مبعثرة، ومحتوياتها مكشوفة أمام ناظر ثلاثة رجال مدججين بالسلاح كانوا يحيطون بنا بكامل عتادهم.

كان ذلك في الثالث والعشرين من يناير الماضي، حيث أمضيت ساعات طويلة في غبار سهل البطانة، محتجزا بسبب تصوير مشهد قاحل أصبح الآن مرادفا لانهيار السودان.

قام المسلحون بفحص كل صورة وملف في أجهزتي، وكانت شكوكهم تعكس جنون الارتياب الذي يسود الآن. وعندما أطلقوا سراحي في النهاية، بعد أن صادروا بطاقة الذاكرة الخاصة بالكاميرا فقط، لم أشعر بالراحة، بل بإحساس باهت: هذا هو ثمن أن تكون شاهدا.

هذه الرحلة التي استغرقت 26 ساعة من عطبرة في الشمال إلى العاصمة الخرطوم، والتي كانت تستغرق في السابق أربع ساعات فقط، كانت الأحدث في سلسلة رحلاتي الطويلة والمليئة بالتحديات في السودان، والتي أعادت تماما تعريف مفهوم السفر في هذا البلد الذي يرزح تحت وطأة الحرب.

كل ميل من الطريق كان يرسخ أكثر الحقيقة التي تعلمتها منذ بداية النزاع بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع في أبريل 2023: هنا، لم يعد السفر يتعلق بالوجهة، بل بالبقاء على قيد الحياة في برية لا يرتبط فيها الخطر بأي (زي).

أول مواجهة لي مع هذه الحقيقة كانت في 12 يونيو 2024، عندما سافرت من منطقة الأزهري، إحدى أحياء جنوب الخرطوم، إلى مدينة كوستي للاحتفال بعيد الأضحى مع عائلتي. كان اللقاء مفعما بمشاعر متناقضة، بين المرارة والفرح، حيث مر عام كامل تماما منذ أن فروا من العاصمة.

تحولت الرحلة التي كانت تمتد على مسافة نحو 320 كيلومترا إلى جحيم دام حوالي 10 ساعات. في الساعة الرابعة صباحا (0200 بتوقيت غرينيتش)، نقلني قريب لي على عربة توك توك إلى محطة حافلات قريبة عبر طرق داخلية خالية إلا من تردد أصداء الانفجارات.

قال السائق بصوت خال من الانفعال، بينما كانت طلقات الرصاص تتناثر في الأفق: "أنا عادة ما أنقل الركاب إلى محطة الحافلات؛ لقد اعتدت على هذا الجو".

بعد الرحلة غير المريحة على التوك توك إلى المحطة القريبة، أمضيت نحو ساعتين إضافيتين للوصول إلى محطة الحافلات الرئيسية. هناك، دفعت 80 ألف جنيه سوداني (حوالي 40 دولارا أمريكيا) أي أكثر من خمسة أضعاف الأجرة المعتادة قبل الحرب، مقابل مقعد في حافلة متهالكة تفوح منها رائحة العرق والخوف.

طوال الرحلة، تحمّل الركاب، بمن فيهم أنا، عمليات تفتيش واستجواب متواصلة في كل نقطة تفتيش، حيث كان الجنود يتفحصون هوياتنا وأسباب سفرنا بتهديد ممل. وبصفتي صحفيا، أخفيت مهنتي، مدركا تماما أنني قد أكون هدفا لكلا طرفي الصراع.

ما زلت أتذكر امرأة شابة كانت تجلس إلى جانبي خلال الرحلة: كانت قد حلقت شعرها وارتدت ملابس ذكورية، وهو تَخَفٍ ضروري للتهرب من المسلحين المعروفين بالاعتداء على النساء.

قالت الفتاة مبتسمة "الآن أفكر في الوقت الذي سيستغرقه شعري لينمو مجددا، لكن تضحياتي تبدو تافهة مقارنة بما عاناه الآخرون في هذه النقاط".

بعد سبع ساعات، احتضنت عائلتي في كوستي، مختتما الرحلة التي حولتنا إلى مجموعة من المسافرين الغرباء ربطهم الضعف المشترك.

بحلول أكتوبر من العام الماضي، تحولت المناطق الجنوبية للخرطوم إلى ساحات قتال، مما دفعني إلى الانضمام إلى قافلة في مساء الثاني والعشرين من أكتوبر، متجهة شمالا عبر سهل البطانة، ومن ثم إلى مدينة عطبرة، وأخيرا مدينة بورتسودان، هربا من العنف المتصاعد.

خلال الرحلة، كان الصمت الغريب هو السائد، لا يقطعه سوى أصوات الحياة البرية البعيدة التي كانت تزيد من شعورنا بالقلق الجماعي.

كان سائقنا يتنقل عبر التضاريس الوعرة بمهارة وخبرة كبيرة، حيث كان يطفئ المصابيح الأمامية لمسافات طويلة. وقال موضحا "في بعض الأماكن، يوجد رجال مسلحون، ولا أريد جذب انتباههم".

أثناء الرحلة، بدأت التحدث مع رجل مسن بجانبي، كان وجهه مليئا بالكدمات ويده اليمنى تحمل جروحا حديثة، مما يدل على أنه تعرض للاعتداء مؤخرا.

أخبرني أنه ظل في منزله بمنطقة جبرة المحاصرة جنوب الخرطوم بعد نزوح أسرته المبكر. وأجبره المرض والجوع على الفرار عندما "كان الموت قريبا".

حين عبرت عن قلقي بشأن المخاطر القادمة، قال الرجل "لقد غرقنا بالفعل، لذا لن نخاف من البلل".

عندما ظهرت أولى نقاط التفتيش عند المدخل الجنوبي لولاية نهر النيل، بعد 12 ساعة من السفر، أحاط بنا سبعة جنود مثل النسور الكاسرة، أصابعهم على الزناد. كان معظمهم يحمل أسلحة خفيفة، بينما كان هناك مدفع دوشكا، والذي رأيته عدة مرات أثناء تغطيتي للأحداث العسكرية في السودان، منصوب على سيارة قريبة.

بعد أكثر من نصف ساعة لعبورنا لنقطة التفتيش قال السائق: "لا داعي للخوف من نقاط التفتيش العسكرية، كل ما يتطلبه الأمر هو الهدوء وعدم التحدث مع الجنود أو محاولة المزاح معهم".

كان محقا، لكن لم يكن أحد في حالة تسمح له بالمزاح، فقد نال منا الإرهاق ونحن نواصل رحلتنا نحو بورتسودان. كانت ملابسنا مغطاة بالغبار ومعنوياتنا منهارة. ومع غياب مكيف الهواء في السيارة، اضطررنا لترك النوافذ مفتوحة لمقاومة الحرارة الخانقة.

هذه الرحلات الثلاث، من بين العديد من الرحلات التي قام بها سودانيون مثلي خلال الأشهر الـ22 الماضية، تكشف حربا تلتهم ليس فقط الأرواح، بل أيضا تحد من حركة الأفراد خارج حدود المنازل.

الطرق التي كانت مليئة بالتجار والمسافرين، باتت الآن تحت سيطرة المحققين المسلحين واللصوص الذين يستغلون الفوضى.

تضاعفت كذلك أسعار تذاكر السفر، حيث يكلف مقعد الحافلة الواحد ما يعادل أجر أسبوع كامل، مما يزيد من معاناة الناس. والأسوأ أن السكان يضطرون لإخفاء هوياتهم من أجل سلامتهم، فتتخفى النساء في ملابس الرجال، بينما يدفن الصحفيون بطاقاتهم الصحفية.

تحولت أحياء كاملة في الخرطوم إلى سجون مفتوحة. كثيرون لا يملكون المال أو أماكن آمنة للاختباء، بينما يتمسك آخرون بمنازلهم كنوع من التحدي. يعتمد الكثيرون على أفراد أسرهم الذين نزحوا أو هاجروا للحصول على الدعم، أو على المطابخ المجتمعية المعروفة بـ (التكايا) للحصول على الطعام، أو على لجان المقاومة المحلية لتوصيل المساعدات. وحتى أمر بسيط مثل الحصول على الخبز قد يعني الموت.

السفر في السودان اليوم يعني التنقل عبر روح أمة مجزأة. كل طريق نسلكه، وكل نقطة تفتيش نعبرها، وكل وجه نلتقيه، يهمس بأن البقاء ليس مرهونا بالمرونة، بل بالتكيف. السائق الماهر، الشابة الهادئة، والشيخ المصمم على البقاء ليسوا أبطالا، بل أشخاصا عاديين يتعلمون كيف يتنفسون تحت الماء.

مع اقتراب النزاع من إكمال عامه الثاني، كثيرا ما أفكر في المسّلح الذي صادر بطاقة الذاكرة الخاصة بكاميرتي قبل شهر. الشيء الذي سعى لمسحه، يخاطر آخرون بكل شيء لتوثيقه. قد تكون طرقنا مجزأة، لكن قصصنا ستظل باقية - مبعثرة مثل بذور على أرض قاحلة، رافضة أن تُصمت.

السؤال لا يزال قائما: ما الثمن الذي يجب أن ندفعه لأضعف أمل في حرية الغد؟ في السودان، الإجابة تكمن في عزيمة أولئك الذين يواصلون الحركة، ويستمرون في التذكر، ويؤمنون أن الرحلة قد تؤدي يوما إلى مكان آخر، إلى مكان أفضل.

صور ساخنة