بقلم / إيمان حمود الشمري، صحفية سعودية
لم أكن متحمسة للسفر لتلك المقاطعة، وفي الغالب يروق لي هذا الشعور!! لأن خفض سقف توقعاتك يرفع عنصر المفاجئة لديك… ولكن المفاجئة الحقيقية أن تلك المقاطعة لم تكتفِ برفع عنصر المفاجئة وإنما ضاعفته!! أدهشتني بأول محطة توقفنا عندها وهي مدينة داليان الساحرة Dalian، وكأنها استخدمت معي أسلوب العلاج بالصدمة، لتوقظني برائحة الملح واليود القادمة من بحرين متجاورين في شرق آسيا، أحدهما بحر الصين والآخر البحر الأصفر الغني برواسب نهر هوانغهو.
لياونينغ Liaoning وعاصمتها شنيانغ Shenyang.. خليط الثراء الفاخر من الموارد الطبيعية والفرص التجارية والتنوع الثقافي والإرث التاريخي الثري، حيث تضم ستة مواقع مسجلة في قائمة اليونسكو، كالقصور الملكية ومدافن الأباطرة التي تُظهر تاريخ أسرة تشينغ العريقة، بالإضافة لسور الصين العظيم الذي يمر بها.
يحق لمقاطعة لياونينغ أن تتصدر المشهد وتجلس بشموخ، كونها المقاطعة الوحيدة في شمال شرق الصين التي تتمتع بساحل بحري وتجاور حدوداً برية دولية مع كوريا الشمالية في آنٍ واحد، ليجعلها ذلك الموقع المميز جسراً بين البحر واليابسة، ومركزاً للتجارة بين الصين وكوريا مع ميناء منتعش تجارياً وشواطئ سياحية، حيث زرنا ميناء داليان الذي يعتبر من أقدم وأكبر الموانئ بالصين، الذي يعمل بشكل أساسي في تحميل وتفريغ النفط الخام والنفط المكرر، والكيماويات السائلة، بالإضافة لخدمات التخزين والنقل، كما يعتبر بوابة بحرية مهمة للتجارة مع شمال شرق آسيا مثل اليابان وكوريا الجنوبية وروسيا، شاهدنا ذلك الميناء الذي يقع على خليج داليان من سطح المبنى، واستمتعنا بمشهد حاويات نقل البضائع الملونة، المتراصة بتنسيق وكأنها عمل فني فريد، كما سُمح لنا بدخول غرفة التشغيل لمشاهدة التحكم بعملية نقل ومراقبة البضائع عن كثب من خلال شاشات وجهاز يشبه مقبض التحكم في الألعاب الألكترونية.
خمسة أيام مرت مسرعة، كسرعة القطار من طراز G3519الذي غادر بنا إلى هناك، وكأننا في رحلة زمنية بين الماضي والمستقبل، رحلة شاهدنا فيها تكنولوجيا الزراعة بدون تربة في أكاديمية لياوننغ للعلوم الزراعية، والتي هيئأت محميات زجاجية، تحوي مراوح ضخمة، تتميز بجو استوائي رطب كمناخ نموذجي للزراعة، تزرع الفطر والخضروات وتتحكم بلون الورد من خلال حقن ساق الزهرة، لتُنتج زهرة زرقاء فريدة اللون تشبه سواحل لياونينغ ، وانتقالاً لزيارات أخرى عدنا فيها إلى الماضي كزيارة المتحف الصناعي الصيني الذي يقع في العاصمة شنيانغ ، تجولنا عبر الزمن ونحن نشاهد ذلك المصنع العملاق الذي تحول لمتحف يحوي تماثيلاً لعمال يصهرون الحديد، ويطوّعون الصُلب لبناء مستقبلهم، وكأنها يتنبؤن بمستقبل الصين، ويكتبون قصة صعودها من دولة زراعية إلى عملاق صناعي. ولا يسعني أن أتخطى في هذه السطور زيارتنا للحديقة الجيولوجية الوطنية لأحافير الطيور في تشاويانغ Chaoyang، رحلة أخرى عبر ساعة الزمن أعادتنا لأكثر من 120 مليون سنة إلى الوراء، لنشاهد في هذا المكان كميات هائلة من أفضل وأهم أحافير الطيور والأسماك في العالم، وهياكل عظمية ضخمة للديناصورات، تشعر بالضآلة وأنت تقف بجانب هذا الجسم العظيم لالتقاط صورة!! تلك المجموعة النادرة من الحفريات ساعدت العلماء على فهم تطور الحياة الفطرية، ولازال حتى الآن التنقيب مستمر والأبحاث مستمرة في مواقع الحفريات.
اليوم الخامس.. يوم المغادرة، هل كان هذا اليوم يشي بنا لمحطة القطار لتعيدنا إلى طابور المغادرين إلى بكين رغماً عنا؟؟ هذا ما حدث فعلاً.. انقضت الأيام سريعاً وخاننا الوقت، الغريب أنني كنت متأكدة أن تاريخ العودة في الغد، ولكن تذكرة السفر كانت تؤكد تاريخ اليوم!! ورحلت…. وبقي وجزء مني هناك، لم يكتفِ من لياونينغ …أعترف أنني منذ أن غادرت وأنا أخطط للعودة في يوم ما.