الصفحة الرئيسية >> الأعمال والتجارة

تعليق: التجارة الدولية .. تعاون متبادل المنفعة وليست لعبة نصر أو هزيمة

استغل البعض في الولايات المتحدة ولفترة طويلة، العجز التجاري في السلع بين الصين والولايات المتحدة لمحاولة حل ما يُسمى بمشكلة "اختلال التوازن التجاري" عبر فرض رسوم جمركية وتقييد الاستثمار. إلا أن الحقائق تُظهر أن العجز التجاري الأمريكي مع الصين ليس بسبب الصين، بل هو النتيجة الحتمية لاستنزافها لقطاعي التصنيع والهيكل الاقتصادي، وأن مساواة العجز التجاري في السلع بـ"الخسارة" هو سوء فهم لقواعد الاقتصاد الأساسية، وذريعة لشن حرب تجارية.

يرجع استمرار العجز التجاري الأميركي في السلع في التوسع على مدى العقود القليلة الماضية، أساساً إلى العوامل الثلاثة التالية: ـ

انخفاض معدل الادخار وارتفاع الاستهلاك

ظل معدل الادخار الشخصي في الولايات المتحدة منخفضًا لفترة طويلة، حيث بلغ 3.8% فقط في ديسمبر 2024، بينما يُمثل الإنفاق الاستهلاكي حوالي 70% من الناتج المحلي الإجمالي. وهذا النمط الاستهلاكي يجعل الطلب على السلع في الولايات المتحدة يتجاوز بكثير قدرتها الإنتاجية المحلية، ويصبح العجز التجاري في السلع أمرا طبيعيا.

تقليص أهمية التصنيع ونقل الصناعات

على مدى عقود، نقلت الشركات الأمريكية صناعاتها التحويلية إلى الخارج لأسباب اقتصادية، مما أدى موضوعيًا إلى انخفاض نسبة التصنيع في الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي من حوالي 25% عام 1960 إلى حوالي 10% اليوم، وانخفاض عدد العاملين في قطاع التصنيع من ذروته البالغة حوالي 20 مليونًا عام 1979 إلى أكثر من 12 مليونًا اليوم، وهو ما يمثل حوالي 8% فقط من إجمالي السكان العاملين.

الوضع النقدي الدولي للدولار الأمريكي

بصفتها مُصدر العملة الاحتياطية الرئيسية في العالم، تُوفر الولايات المتحدة سيولة رأس مال دولية وأصول احتياطيات النقد الأجنبي للعالم من خلال عجز الحساب الجاري، مما يؤدي إلى المبالغة في تقييم الدولار الأمريكي واستمرار العجز التجاري الأمريكي على المدى الطويل. بعبارة أخرى، تحتاج الولايات المتحدة إلى الحفاظ على عجز تجاري مع الدول الأخرى للحفاظ على هيمنة الدولار الأمريكي الحالية في النظام النقدي والمالي الدولي.

إن النظر إلى العجز في تجارة السلع باعتباره "خسارة" هو عقلية مضللة تعتمد على مبدأ المحصلة الصفرية. وإن التجارة الدولية عبارة عن تعاون متبادل المنفعة يعتمد على ثروات الموارد، وتقسيم العمل الدولي، والمزايا النسبية لمختلف البلدان، وليس لعبة الفوز أو الخسارة. وعند تقييم العلاقات الاقتصادية والتجارية والمنافع بين الدول، لا ينبغي النظر إلى حجم تجارة السلع وحجم الفائض فحسب، بل ينبغي النظر إلى الأرباح التجارية والمنافع الإجمالية أيضًا. وفي التبادلات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة، فإنه على الرغم من أن الصين تتمتع بفائض تجاري في السلع مع الولايات المتحدة، إلا أن العديد من المكونات الرئيسية لا تزال بحاجة إلى الاستيراد من الولايات المتحدة ودول متقدمة أخرى، وفي الوقت نفسه، تشتري الصين كميات كبيرة من الخدمات الأمريكية، بما في ذلك مدفوعات الملكية الفكرية، والتأمين المالي، والخدمات اللوجستية، والخدمات المهنية، وغيرها، وتُعتبر القيمة المضافة وهوامش الربح للصناعات التحويلية الصينية محدودة نسبيًا. وبالمقارنة، تتميز صادرات السلع الأمريكية إلى الصين بقيمة مضافة ومستوى ربح مرتفعين. كما أن الأرباح التي تحققها الشركات الأمريكية في السوق الصينية سنويًا من خلال الاستثمار في الصين أعلى بكثير من أرباح الشركات الصينية في السوق الأمريكية. وتُعدّ الولايات المتحدة رائدة في مجال الخدمات ذات القيمة المضافة العالية، بإيرادات سنوية تزيد عن 144 مليار دولار من عائدات الملكية الفكرية، متجاوزةً بذلك الدول الأخرى بكثير، لا سيما في ظلّ فائض تجاري ضخم في قطاع الخدمات مع الصين. وإن القول بأن الولايات المتحدة "خاسرة" استنادًا فقط إلى العجز التجاري في السلع هو تعميمٌ مُطلق.

إن فرض الولايات المتحدة للرسوم الجمركية، لن يُسهم في حلّ العجز التجاري، بل سيُلحق ضررًا وتداعيات سلبية باقتصادها. فنظرًا لغياب سلسلة صناعية متكاملة وفعّالة وعمالة ماهرة كافية، يصعب على الولايات المتحدة جذب الصناعات التحويلية إليها على المدى القصير. في الوقت نفسه، سيتحمّل المستوردون والمستهلكون الأمريكيون في نهاية المطاف تكلفة الرسوم الجمركية بشكل رئيسي. ويتوقع مختبر الميزانية بجامعة ييل أن فرض رسوم جمركية واسعة النطاق بنسبة 20% في الولايات المتحدة سيُؤدي إلى خسارة الأسرة الأمريكية المتوسطة ما يصل إلى 4200 دولار سنويًا.

ولحل مشاكل مثل تفريغ التصنيع والتوزيع غير المتوازن للثروة، تحتاج الولايات المتحدة إلى التركيز على إصلاح نظامها التعليمي الداخلي، وتحسين القدرة التنافسية الأساسية للتصنيع، وبناء البنية التحتية، ورفع مستوى مهارات العمل، بدلاً من مجرد تحويل اللوم إلى دول أخرى. وليس لدى الصين أي نية لتحدي الولايات المتحدة، ولم تتخذ أبدًا زمام المبادرة لإثارة النزاعات التجارية. لقد دعت دائمًا إلى أن تحل الصين والولايات المتحدة الخلافات من خلال الحوار والتشاور على قدم المساواة. وتعمل الصين بثبات على توسيع انفتاحها وخلق نمط مؤسسي رفيع المستوى للانفتاح على العالم الخارجي. ومع ذلك، فقد وضعت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا عقبات، وقيدت الاستثمار ثنائي الاتجاه مع الصين، وقيدت صادرات التكنولوجيا إلى الصين، وقوضت قواعد التجارة الدولية من خلال سياسات التعريفات الجمركية. ومن الواضح أن دافعها ليس حل العجز التجاري فحسب، ولكن الحد من التحديث الصناعي والتقدم التكنولوجي في الصين أيضًا.

العلاقات الاقتصادية والتجارية بين الصين والولايات المتحدة نتاجٌ مشترك للعولمة الاقتصادية والتعاون الاقتصادي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ولا يمكن للصين والولايات المتحدة مواصلة المضي قدما على طريق الإنتاج المستدام والتجارة المستدامة والاستهلاك المستدام، وحقن المزيد من اليقين والاستقرار في الاقتصاد العالمي، إلا من خلال تعزيز الحوار والتعاون.

صور ساخنة