الأخبار الأخيرة

عودة الإنسان إلى الطبيعة: قصة أفول ونهوض قرية صينية قديمة

/صحيفة الشعب اليومية أونلاين/  16:15, December 06, 2016

    اطبع
عودة الإنسان إلى الطبيعة: قصة أفول ونهوض قرية صينية قديمة

وليد عبدالله، باحث وكاتب تونسي مقيم بالصين

قبل أكثر من 500 عام، فرّت عائلة أرستقراطية صينية من الحروب التي عمّت موطنها الأصلي في مدينة خهنان وأوت إلى جبل لتتخذه موطنا لها ولأحفادها، ويُرجّح أن تكون هذه العائلة قد رُوّعت من أهوال الحرب أو أنها كانت ملاحقة، لذلك إختارت موطنا حيث يبني الصقر عشّه، فقد إستقرت في جوف غابة محاطة بسلسلة من الجبال من الجهات الأربعة، لايهتدي إليها إلا طائر.

لم تمت عائلة تساو في وحشة هذا المكان، بل كانت نواة لقرية جبلية عريقة، إسمها قرية هوانغ لينغ، وسلالة ممتدة، تدعى تساو. قدّم سكان القرية آية في قدرة الإنسان على التأقلم وإرادته القوية في تغيير حياته إلى الأفضل. شيّدت البيوت بشكل متدرج من الأعلى إلى الأسفل على مسار المنحدر، وتشق القرية طريقا رئيسية بشكل عرضي في جزئها العلوي، وأزقة ضيقة مدرجة من الأعلى الأسفل، وأستعملت في ذلك الصخور والخشب الذي توفره الطبيعة.

لكن عبقرية سكان القرية تجلت خاصة في نظامها الإجتماعي والسياسي المتقدم، فقد أسست نظام قضائي يستند لأعراف السلف والتقاليد الكونفوشيوسية، حيث توجد في القرية محكمة"يتقاضى إليها الناس ويرأسها كبير القوم، ونظام جزائي ونظام أمني. كما أسست نظام تعليمي يتيح للأبناء المشاركة في الإمتحان الإمبراطوري، "keju"، وأنشأت المدارس والمكاتب، ونظام إجتماعي قائم في آن واحد على التدرج الطبقي والإلتفاف حول شجرة العائلة. أما إقتصادها فكان قائما على الزراعة، وقد إشتهرت في كامل الصين بتقاليد تجفيف المحاصيل فوق سطوح المنازل، حيث يقوم سكان القرية في موسم جني المحاصيل بتجفيف كل مالديهم من خضار ولحم وفاكهة وتخزينه مؤونة لشتاء بارد وطويل، كما تعكس النقوش والنحوت على المعالم التاريخية للقرية إزدهار الحرف في القرية.

إستطاعت هذه القرية الجبلية النائية بنظمها المتطورة أن تزدهر وتتطور على مدى قرون وتندمج في النظام الإمبراطوري وتواكب تغيرات المجتمع، وتحافظ على العديد من التقاليد والحرف الصينية التي إندثرت في مناطق أخرى، لكن التغيرات العميقة والسريعة التي شهدتها الصين خلال القرن الأخير خلقت هوة سحيقة بين وضع المجتمع الصيني ووضع سكان القرية. حيث ظل سكان القرية يعيشون حياة المجتمع الزراعي التقليدي ويقضون حياة بائسة فقيرة في شعاب الجبال، دون إنارة أو تدفئة أو ماء صالح للشرب أو خدمات صحية أوتعليم، في الوقت الذي دخل فيه المجتمع الصيني حياة الرفاهية. فغدت القرية طاردة لسكانها وخاصة الشباب الذي أغرته حياة المدينة ومافيها من رفاهية وفرص، فهجرها إلى المدينة ولم يبق غير الشيوخ والأطفال، كما تآكلت الجدران وإنهارت الكثير من المنازل، وباتت هذه القرية التي صمدت لخمسة قرون تنتظر موتها السريري.

لكن في الوقت الذي كان سكان هوانغ لينغ يشعرون بقساوة الحياة في الجبل ويتطلعون إلى حياة حديثة وأكثر رفاهية، كان مجتمع المدن الصينية يعيش حالة من الضجر الناجم عن التلوث والإزدحام ورتابة الحياة، وبات سكان المدن يتطلعون لإستنشاق هواء نقي أوتناول خضار طبيعية غير معدلة، أوالجلوس في السكينة بين أحضان الطبيعة.

إن هذه "المراجعة الفكرية" التي عمّت الثقافة الغربية مع تيار مابعد الحداثة، تتوسع الآن بإستمرار داخل المجتمع الصيني مدفوعة بالقلق الذي تسببه عملية التحديث المتسارعة على الإنسان، وبات مايسمى بـ"إحياء القديم" 复古، موجة رائجة في تصاميم الأثاث والمقاهي والفنادق، وباتت الحضارة الإيكولوجية طموح المجتمع والدولة. وإن هذه الموجة من المراجعة العميقة التي يخوضها المجتمع الصيني هي التي أعطت لقرية هوانغ لينغ قبلة الحياة وهي على عتبة الإندثار، وجعلتها تنبعث من جديد في أجمل صورها.

تفطنت إحدى الشركات الصينية إلى علاقة "العرض والطلب" بين قرية هوانغ لينغ الثرية بمميزاتها الطبيعية والثقافية وبين حنين المجتمع الصيني إلى الطبيعة والعادات والتقاليد القديمة، فإستثمرت في إحياء هذه القرية، حيث قامت ببناء مجمعات سكنية حديثة مزودة بمختلف أسباب الرفاهية تحت الجبل ليسكنها أهل القرية، ثم أعادت ترميم مباني القرية وحوّلتها إلى فنادق فاخرة مزودة بكل مستلزمات وكماليات الحياة، وبنت خط بريفيريك ينقل السائحين من الطريق العام إلى القرية، وأعادت سكان القرية للعمل في المحلات والفنادق، وممارسة الحرف القديمة.

إستعادت قرية هوانغ لينغ حيويتها وجمالها بعد أن تدفقت دماء المجتمع الحديث بين أوصالها، وبعد أن كادت تندثر،باتت الآن قبلة تأسر ألباب سكان المدن الكبرى ومصنفة كـ"أجمل قرية في الصين"، ووجهة سياحية يدفع الزائر قرابة ألف دولار من أجل قضاء ليلة واحدة داخلها.

إن قرية هوانغ لينغ اليوم، هي حتما ليست القرية القديمة، لكنها أيضا تختلف إختلافا كبيرا عن أي قرية أومدينة صينية، فهي بالإحرى، تقاطع بين طريق هروب المجتمع الزراعي من بؤس الأرياف الجبلية، وطريق هروب المجتمع الحديث من أمراض المدن العصرية. وحينما تدخلها تشعر بأنها "المدينة الفاضلة" التي يبحث عنها الإنسان بعد صراع طويل بين الحداثة والتقاليد، بين التصنيع والطبيعة، بين العولمة والخصوصية، فهنا تجد تصالح وتعايش بين مختلف المتناقضات التي عرفها المجتمع الصيني خلال المئة سنة الأخيرة.

حينما تصل هوانغ لينغ، تستقبلك باحة صغيرة يمكنك أن تلقي من خلالها نظرة بانورامية على كامل القرية، وإذا صادف أن وصلت ليلا ستستمتع بمشاهدة مظهر القرية الليلي المدهش، حيث ترى الفوانيس ترصع ستار الليل المسْدل على الجبل مثل النجوم، ثم تمر بالطريق الرئيسية، طريقا متعرجة يمينا ويسارا، صعودا ونزولا، وعلى جانبيها مباني قديمة بجدران بيضاء وأسقف قرميدية سوداء، وفي منتصف الطريق تجد سلسلة من المقاهي والحانات ونادي للكاراوكي، والمحلات التي تبيع مختلف السلع التذكارية، وكأن المدينة قد إرتحلت لتسكن هنا.

رممت المساكن الصغيرة التي كان يسكنها القرويون، وتم تحويلها إلى فنادق بطابقين أو ثلاث، يبدو المظهر الخارجي لهذه الفنادق تقليدي وبسيط، فهي أشبه بمسكن ريفي، لكنها تحتوي على كل أسباب الرفاهية، من تدفئة وإنارة وتلفزيون وإنترنت وغرفة إستحمام وتصاميم فنية رائعة، إلى جانب شرفة مطلة على كامل القرية.

مع طلوع ضوء الصباح، تبدو هوانغ لينغ وكأنها لوحة زيتية رسمت بمختلف الألوان، فقد أشتهرت هذه القرية بمناظر تجفيف الخضار على أسطح المنازل، حيث تقطّع مختلف أنواع الخضار إلى شرائح وتوضع في أطباق كبيرة وتنشر على السطوح لتجف ويسهل تخزينها، مايعطي مشهدا بديعا يندر مشاهدته في أي مكان آخر من العالم. وعلى شرفات بعض المنازل ترى نساء القرية منهمكات في تقطيع الخضار، وأخريات داخل البيوت يحضرن مختلف الأطعمة والحلويات التقليدية، وبين الأزقة تشاهد البعض يمارس الحرف اليدوية، مثل صناعة الأدوات السعفية والتطريز على الحرير، مايتيح للزائر التعرف على عادات وتقاليد سكان القرية.

في الحقيقة، إن قرية هوانغ لينغ ليست شاهدا من شواهد الماضي فحسب، بل إن نهوضها يمثل إرهاصا لإتجاه التنمية المستقبلي في الصين، فمن المعلوم أن رأس المال لايتحرك بشكل إعتباطي، بل إن "اليد الخفية" التي تحدث عنها آدام سميث هي من وجهت الشركة المستثمرة لضخ مليارات اليوانات في هذه القرية الجبلية، أما من يحرك "اليد الخفية" فهي التغيرات العميقة التي تحدث في وعي المجتمع الصيني حيال العلاقة بين التنمية الإقتصادية والبيئة والتقاليد والحداثة، وهذه التغيرات هي التي تدفع بتغير العلاقة بين رأس المال والطبيعة، فبعد أن كان المستثمر يوظف الطبيعة ويكتسحها من أجل تحقيق الأرباح، ويدمر البنايات القديمة التي تحتوي على موروث فني وثقافي كبير من أجل بناء الأبراج العالية، باتت اليوم عدة شركات تستثمر أموالها في حماية الطبيعة وترميم البنايات القديمة وإحياء العادات والتقاليد، من أجل تحقيق نفس الهدف—الربح، وهو إتجاه يجعل من دخول الإنسان عصر الحضارة الإيكولوجية أمرا ممكنا، حضارة تقوم على الطاقة النظيفة، يتصالح فيها الإنسان مع الطبيعة والتقاليد مع الحداثة. 


【1】【2】【3】【4】【5】【6】【7】【8】【9】【10】

صور ساخنة

أخبار ساخنة

arabic.people.cn@facebook arabic.people.cn@twitter
×