د.وليد عبدالله، باحث وكاتب
على امتداد العقود التالية لسياسة الاصلاح والانفتاح الصينية، ظلت السياسات والمقولات الأمريكية تجاه الصين تتغير مع تغير قدرات وقوة الصين. من الثقة في قدرة النموذج الأمريكي على تغيير الصين والتنبؤ بانهيار النظام الصيني؛ إلى مهاجمة الصين بسبب التلوث الناجم عن التنمية الصينية والتنبيه من الاستعمار الجديد؛ ثم إلى تعديل مركز الاستراتيجية العسكرية الأمريكية نحو آسيا المحيط الهادي والقلق من النمو الاقتصادي السريع للصين. وأخيرا إلى ضربات ترامب المباشرة للاقتصاد والتقنية الصينية واتهام الصين بالتأثير في قرارات بعض المنظمات الدولية، والتخوف من تهديدها لمكانة أمريكا العالمية. وهكذا ظلّ حجم الصين في عين الولايات المتحدة الأمريكية يكبر شيئا فشيئا من دولة ضعيفة بإمكان أمريكا تغييرها إلى منافس و"عدو"، يهدد الريادة الأمريكية.
الاحتواء: من "النفس الطويل" إلى "الضربة الاستباقية"
في عام 2011، صرحت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقةهيلاري كلينتون، قائلة بأن أمريكا قد انشغلت في مقاومة الإرهاب في الشرق الأوسط، بينما نمت الصين بسرعة. هذا التفاجؤ بنهوض الصين، سواء كان فعلا بسبب انشغال أمريكا في الشرق الأوسط، أو بسبب تقليل أمريكا من قدرات تطور الصين فإنه لايغير من حقيقة أن 10 سنوات تعدّ شيئا كثيرا بالنسبة للصين، ويمكنها خلالها أن تحقق المعجزات. فأثناء العقد الأول من الألفية الحالية، تضاعف الناتج الاجمالي الصيني 6 مرات، وقد ترافق ذلك، مع نمو واضح في القدرات الشاملة للصين. لذلك منذ إدارة الرئيس باراك أوباما، بدأت أمريكا تنفيذ سياسة احتواء ضد الصين.وقد تجسد ذلك أساسا في تعديل مركز الاستراتجية العسكرية من الشرق الاوسط نحو اسيا المحيط الهادي. واتفافية الشراكة العابرة للمحيط الهادي (تي بي بي)، التي طمحت الى طرح قواعد جديدة للتجارة تخدم الشركات والعمالة الأمريكية بشكل أفضل، وتستثني الصين جانبا. إضافة إلى عرقلة عمليات الاستحواذ التي تقوم بها الشركات الصينية للحصول على التكنولوجيا الغربية. لكن في ذات الوقت، كان خيار إدارة أوباما يميل إلى تفادي المواجهةالمباشرة مع الصين. واعتماد سياسة احتواء طويلة المدى تركز على التنسيق مع الحلفاء، ومحاصرة الصين بمعايير وقواعد تجارية جديدة. وتهدف في آخر المطاف إلى ترويض الصعود الصيني، ودفعه نحو قبول التصور الأمريكي للنظام الدولي والمصالح الأمريكية طويلة المدى. وقد كان ذلك نابع من أحكام أمريكية خاطئة وتقليل من شأن قدرات الصين أيضا. حيث تذكر هيلاري كلينتون في مذكراتها، خلال استرجاعها لزيارة أجرتها إلى الصين في عام 2009. بأن الصين مجرّد قوة عسكرية متزايدة، ونمو اقتصادي سريع، ولاتمثل تحديا لمكانة أمريكا، وأن أمريكا بإمكانها أن تتعامل مع الصين من موقع القوة.
ومرة أخرى قاد الغرور الأمريكي إلى أحكام خاطئة تجاه قدرات الصين.إذ أن 10 سنوات ليست شيئا كثيرا بالنسبة لسرعة النمو فحسب، بل وجودة النمو كذلك. فبعد دخول الاقتصاد الصيني مرحلة الاصلاح الهيكلي، باتت الصين اليوم تمتلك أكبر عدد من الشركات العملاقة في ترتيب أقوى 500 شركة عالمية.ولديها ثاني أكبر عدد من شركات التكنولوجيا ضمن قائمة الـ 100 الأقوى عالميا. كما تمتلك أكبر عدد من براءات الاختراع، وواحدة من الدول السبّاقة في تطوير تقنيات الجيل الخامس وصناعة الذكاء.
مع وصول ترامب إلى السلطة، وسيما السنتين الاخيرتين، تحولت سياسة الاحتواء الأمريكية من "النفس الطويل"، إلى التعجل والمواجهة المباشرة من خلال حرب تجارية وحصار تقني.حيث بدت إدارة ترامب وكأنها تسارع الزمن في توجيه الضربات المتتالية للاقتصاد والشركات الصينية. محاولة إستغلال التفوق الأمريكي الحالي لفرض الشروط الأمريكية الضامنة لاستمرار التفوق الاقتصادي والتكنولوجي الأمريكي، أمام التقدم الصيني السريع في هذين المجالين. وهو ماجعل البعض يصف سياسة ترامب بالضربة الاستباقية، "الآن أو إلى الأبد". أي أنه إذا لم تتمكن أمريكا من وقف التقدم التكنولوجي الصيني إعتمادا على تفوقها النسبي في الوقت الحالي، فإنها لن تستطيع فعل ذلك مجددا.
هدوء صيني في وجه العاصفة الأمريكية
رغم أن سياسة ترامب تبدو "ضربة استباقبة" تجاه الصين، لكنها من الصعب أن تنجح في وقف التقدم الصيني في مجال تطوير التكنولوجيا المتقدمة، لأن الصين تمتلك حزمة من الخيارات والحلول المتنوعة التي ستساعدها في تخفيف آثار العقوبات الأمريكية والإستمرار في التقدم، وهومايجعل الصين أكثر هدوءا في مواجهة "التوتر" الأمريكي.
أولا، الردود المتشدّدة: تمتلك الصين الاستعداد والقدرة على اتخاذ ردود قوية ضد الجانب الأمريكي في القضايا التي تمثل الحدّ الأدنى من تحملها للضغوط، سيما قضايا الأمن القومي. كما بإمكانها إتخاذ اجراءات انتقامية في إطار الحرب التجارية أو ضد الشركات الأمريكية. ولذلك فإن الصين بإمكانها أيضا أن تؤلم الاقتصاد الامريكي وليست الطرف الخاسر الوحيد من الحرب التجارية.
ثانيا، الخيارات المرنة : تُبدي الصين استعدادا للتفاوض التجاري مع الولايات المتحدة، وتقدم تنازلات معقولة بما يسمح بتخفيف حدة الخلافات التجارية وحلّها نهائيا.كما تتجاوب مع الشروط الأمنية الأوروبية المتعلّقة بشركات الاتصالات الكبرى، وهو مايمنح شركاتها فرص التطور في الأسواق الأوروبية، مثلما حدث مع شركة هواوي.
من جهة أخرى، لاتبادر الصين الى التصعيد مع الولايات المتحدة، وتتخذ موقفا دفاعيا. ورغم أن أمريكا لم تساعد الصين أثناء انتشار الوباء، الا أن الصين بادرت الى تقديم المساعدة الى امريكا في مكافحة الوباء. مما يعكس بأن الصين تتطلّع إلى تحسين العلاقات مع أمريكا ولاترغب في التصعيد أوالمواجهة.
ثالثا، القدرات الذاتية:أمام تهديد ترامب بحصار تكنولوجي شبه شامل على الصين، يبدأ من منع نقل التكنولوجيا ويصل الى منع الطلبة والباحثين الصينيين من الالتحاق بالجامعات الامريكية، أو حتى التلويح بقطع العلاقات. فلاشك في أن مثل هذه الاجراءات سيكون لها تأثير على الاقتصاد والتقدم التقني في الصين. لكن مدى هذا التأثير غير معلوم، بسبب إمتلاك الصين لقدرات ذاتية قوية، فبعد 40 سنة من الاصلاح والانفتاح، نجحت الصين في تحقيق تراكم ثري للتقنية، من ادخال التقنية إلى توطينها ثم الابتكار فيها.
كما شرعت الصين منذ قرابة 10 سنوات في اجراء هيكلة صناعية، والتركيز على الاستثمار في التكنولوجيا والبحث العلمي. وبحسب تقرير "مؤشرات العلوم والهندسة 2020" الصادر عن المؤسسة الوطنية للعلوم الأمريكية "آن آس أف"، فقد بلغت حصة الصين من إجمالي الاستثمار العالمي في البحث العلمي 23% في عام 2017، متمركزة بعد الولايات المتحدة التي بلغت حصّتها 25%. ومثلت الزيادة الصينية في الاستثمار في البحث العلمي بين عام 2000 و2017 أكثر من 30% من إجمالي الزيادة العالمية. وفي عام 2018 بلغت حصة الصين من الصناعات المتمركزة حول التكنولوجيا العالية 21% من الاجمالي العالمي، بعد الولايات المتحدة التي تمثل حصّتها ثلث الإجمالي العالمي. وفي مجال عائلات براءات الاختراع، مثلت حصة الصين 49% من الاجمالي العالمي في عام 2018. واستنتج التقرير المذكور، بأنه رغم استمرار الولايات المتحدة في الحفاظ على أسبقية في مجال التكنولوجيا المتقدمة. إلا أن حصّتها العالمية تتراجع باستمرار، في حين تتقدم المؤشرات الصينية بشكل سريع. ويعزّز هذا الاستنتاج مقولة الضربة الاستباقية التي تشنّها أمريكا على الاقتصاد والتقنية الصينية. لكن في ذات الوقت، يعكس بأن الصين تمتلك من القدرات الذاتية مايجعلها تتفادى تأثيرات السياسات الأمريكية.
رابعا التضامن الوطني في وجه الضغوط: بسبب الخلافات الايديولوجية، مارست أمريكا سياسة العقوبات والحصار الاقتصادي بدرجات متفاوتة، على عدّة دول، مثل العراق وليبيا وروسيا وايران وكوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا. لكن لم تفلح هذه السياسات في إحداث تغيير سياسي أو خلق ضغط شعبي على أي من أنظمة هذه الدول. لذلك فإن العقوبات والضغوط الأمريكية على الصين علاوة على أنها لن تكون بذات التأثير الاقتصادي والاجتماعي في الدول المذكورة، فإنها ستزيد من وحدة الشعب والحكومة الصينية. وستحظى الحكومة المركزية بمزيد من الدعم الشعبي في سياساتها المضادة، وستكون أكثر قدرة على تحمّل الضغوط الأمريكية، حتى في ظل تباطؤ معدّلات النمو الاقتصادي.
وبالنظر الى اختلاف تقاليد المجتمع والنظام السياسي في البلدين. فإن الحكومة الأمريكية ستكون أكثر عرضة للضغوط الاجتماعية المترتبة عن التأثيرات الاقتصادية للحرب التجارية مع الصين وركود الاقتصادي العالمي، سيما بعد عالم مابعد وباء كورونا المستجد.
يستنفر ترامب في الوقت الحالي، كل قدرات التفوق الأمريكي من أجل وقف التقدم الاقتصادي والتكنولوجي الصيني، والمحافظة على الريادة الأمريكية في العالم. ورغم أن هذه السياسات تأتي في ظل تفوق أمريكي نسبي عن الصين. لكن ميزان القوى بين الجانبين، لم يعد على شكل قوي وضعيف بما يجعلنا نتحدث عن إحتواء وايقاف تقدم الصين الاقتصادي والتقني. وإنما قد تحوّل إلى ميزان التنافس، ولايمكن للمنافسة إلا أن تؤدي إلى مزيد من التطور. وهو مايجعلنا نتوقع بأن التنافس الصيني الأمريكي سيدفع نحو المزيد من التطور العلمي والتكنولوجي في العالم خلال المستقبل، وتوقع صين أكثر قوة، وليس أكثر ضعفا. وبأن الضغوط الأمريكية ستزيد من تصميم الصين على تطوير قدراتها الذاتية.
اقرأ أيضا: الصين وأمريكا في ميزان العالم الراهن ...صراع النفعية والبراغماتية