بقلم: د. فايزة سعيد كاب، مترجمة وباحثة في الشؤون الصينية
أكملت للتو ترجمة كتاب "هذه هي الصين ..قوة تسير نحو العالم" من الصينية إلى العربية للبروفيسور تشانغ وي وي أبرز المحللين السياسيين على الساحة الدولية فيما يخص الشأن الصيني، عمل في بداية حياته العملية مترجما شخصيا للغة الإنجليزية للرئيس الصيني دنغ شياو بينغ ، مهندس بناء الصين الحديثة، ودخل كواليس صنع القرار في الصين منذ بداية حياته العملية، كما عايش تطور الصين ونهضتها الحديثة عن قرب، ويطلق عليه المتحدث الغير رسمي للصين. وخلال رحلة الترجمة التي تنقلت خلالها بين صفحات الكتاب، استوقفتني نقاط عدة وقفت عندها وقتًا معتبرًا للبحث ما بداخلها من المعاني العميقة التي تضمها، وأبيت إلا أن أنقل للمهتمين بالشأن الصيني البعض منها، وتحليل البعض الآخر.
لقد استخدم تشانغ وي وي طريقة الاختلاف في المنهج المقارن للخروج بالصورة الصينية للعالم، بهدف عمل مجموعة المقارنات بين الصين والغرب، وذلك للتعرف على وجه الاختلاف فيما بينهما، وبالتالي يكون أمام القارئ فرصة للتعرف على كل شيء غامض متعلق بالصين، ويستطيع الفهم بشكل أعمق وأشمل وأسهل، خاصة قضية حقوق الانسان. يعتبر البروفيسور تشانغ وي وي خطاب حقوق الانسان الغربي مليء بالعيوب التي ينبغي النظر فيها، وإن تنصيب الغرب نفسه معلماً لمفهوم حقوق الانسان لـ 1.3 مليار صيني، بمثابة غطرسة وعدم الإلمام بالشأن الصيني، وهذا هو الفرق الكبير بين النظرية الصينية والغربية فيما يخص المعنى الحقيقي لحقوق الانسان. كما أن الحديث عن حقوق الانسان في الصين، بحاجة إلى سماع الشعب الصيني في الداخل والخارج عن رأيهم في حقوق الانسان في بلادهم، كما يمكن التحقق من تمتع الشعب الصيني بحقوق الانسان من خلال منظمات الاقتراع الغربية ذات السمعة الطيبة، مثل مركز بيو للأبحاث في الولايات المتحدة، وإيبسوس في فرنسا، واستطلاعات أخرى أجريت في الصين في السنوات الخمس إلى العشر الماضية. حيث أثبتت جميع هذه الاستطلاعات تقريبًا أن الصينيين هم الأكثر تفاؤلاً بشأن مستقبل بلادهم، وتعتقد الغالبية العظمى من الصينيين أن بلادهم يسير على الطريق الصحيح.
ويرى تشانغ وي وي أنه من المظاهر البارزة لهذه الغطرسة والجهل أن العديد من الغربيين يعتقدون أنهم أفضل من يعرف العالم، وأنهم يعرفون إفريقيا أفضل من الأفارقة، وروسيا أفضل من الروس، والصين أفضل من الصينيين. كما يؤمن الغرب أن الدمقرطة في إفريقيا يجب أن تكون بشكل واسع، ويصرون على ترسيخ الديمقراطية أولاً، ما أدى إلى دخول عدد كبير من الدول الافريقية في الاضطرابات والمجاعة. في حين يعتقد تشانغ وي وي، أن حقوق الانسان التي تمثل أهمية حيوية عند الأفارقة تكمن في حل قضية الغذاء والتوظيف والأمن والقضاء على الأمراض وغيرها.
وينطوي الاختلاف الكبير في مفهوم حقوق الانسان بين الصين والغرب إلى أن الاولى تعتبر القضاء على الفقر في حد ذاته حقًا أساسيًا من حقوق الإنسان، ومساعدة الدول الأفريقية في التخلص من الفقر للوصول إلى حق أساسي من حقوق الإنسان، ولا يمكن لأي دولة أن تجد أي أعذار لعرقلة تنفيذ هذا الحق من حقوق الإنسان، وهذا مثل أنشطة الإغاثة الإنسانية التي يقوم بها الصليب الأحمر الدولي، والتي لا تفرّق بين الأعداء، وإنما تعتمد على المنظور الانساني. كما لا يمكن معاقبة دولة ما إلا من خلال تفويض من الأمم المتحدة بشكل مشترك، وليس قول الفصل من خلال قلة من الدول الغربية فقط. ويتصرف الغرب في إفريقيا وفقًا لمعاييره الخاصة، وأصبح نوعًا من الابتزاز السياسي، فكيف يمكن لهذه الدول أن تتطور؟ يُعتبر هذا السبب الرئيسي في أن المزيد من الدول الافريقية تتجه بأنظارها نحو الصين، ويطلقون عليها " النظر شرقاً". وإن تعود الغرب على منطق "المركزية الغربية" و "نهاية التاريخ" هي الأسباب الرئيسية وراء مواصلته التركيز على قضايا حقوق الإنسان في الصين. ويُعتقد أن الأنظمة والممارسات السياسية الغربية فقط هي التي يمكن أن تمثل أفضل النظم والممارسات البشرية. وحسب التفكير الغربي فإن "أنت مختلف عني، أنت غير متحضر". في الظاهر، يبدو أن خطاب حقوق الإنسان الغربي هو الأفضل، لكن في الواقع يعاني هذا الأخير من عيوب عديدة، وأوجه قصور رئيسية اختزلها تشانغ وي وي في النقاط التالية: ـ
أولاً، عدم التوازن بين حقوق الإنسان المختلفة
يؤكد الغرب بشكل عام على الحقوق السياسية والحقوق المدنية، على سبيل المثال، لم تعترف الدول الغربية مثل الولايات المتحدة حتى بالجيل الثاني لحقوق الإنسان، المتمثلة في الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. كما أن الولايات المتحدة من الدول الأقل مشاركة في الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان في العالم، حيث أنها لم تشارك في ستة من إجمالي تسع اتفاقيات دولية أساسية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة، منها: "العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، "اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة"، "الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم"، "اتفاقية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة"، "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري"، و"اتفاقية حقوق الطفل". ولا يزال هناك أكثر من 28 مليون شخص في الولايات المتحدة غير مشمولين بالتأمين الطبي، كما لا تحصل المرأة الأمريكية على إجازة أمومة مدفوعة الأجر، وتعتبر هذه كلها انتهاكا لـ"العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية"، الذي لم تشارك فيه الولايات المتحدة. كما لم تحقق الدول الغربية حتى الآن أجرًا متساويًا للرجال والنساء عن العمل المتساوي، وهذا يُعد انتهاكًا لروح العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضًا. كما أن قضايا النزاعات والصراعات العرقية والتمييز العنصري في الولايات المتحدة، هي قضايا حقوق الإنسان الأساسية وفقًا لمعايير الأمم المتحدة. وقد شهدت فترة ترامب زيادة في الأنشطة اليمينية المختلفة في الولايات المتحدة بشكل كبير. وفي عام 2017، ارتفع عدد جرائم الكراهية في الولايات المتحدة بنسبة 17٪، وما يسمى بجرائم الكراهية هي جرائم تستند إلى العرق واللون والقومية وما إلى ذلك.
ثانياً، معضلة العلاقة بين الحقوق الفردية والحقوق الجماعية
يؤكد الغرب أن حقوق الإنسان هي حقوق الأفراد، بسبب خشيتهم من أن يتم انتهاك الحقوق الجماعية ويصبح ذريعة للإضرار بالحقوق الفردية، لكن لهذا القلق جانب غير معقول أيضًا، حيث أن انتهاك الحقوق الفردية يمكن أن يؤدي إلى الإضرار بالحقوق الجماعية أيضًا، على سبيل المثال، استخدم رسام كاريكاتير فرنسي ورسام كاريكاتير دنماركي حريتهما الشخصية في التعبير لنشر رسومات مسيئة لنبي الإسلام واستفزاز أكثر من مليار مسلم. كما يجب أن يوازن النظام المثالي لحماية حقوق الإنسان بين الحقوق الفردية والجماعية، فضلاً عن الحرية والمسؤولية، وأن يكون هناك توازن بين الحقوق والواجبات، وفي هذا الصدد، فإن الفلسفة الصينية في التأكيد على توازن الحقوق والالتزامات ستكون أكثر ملاءمة لتطوير حقوق الإنسان في عصر العولمة.
ثالثاً، حق الدول في تعزيز حقوق الإنسان وفقًا لظروفه الوطنية
لا يؤمن الغرب بتعزيز حقوق الانسان وفقاً للظروف الوطنية، حيث يرى ذلك أمراً سخيفاً. في الواقع، لا يمكن لأي دولة أن تحقق جميع حقوق الإنسان في نفس الوقت، وكل الطرق التي يستخدمها الغرب تقريبًا لتعزيز حقوق الإنسان في البلدان النامية هي قوة سياسية تطغى على كل شيء. وقد حاولت العديد من الدول النامية بتوجيه من الغرب، إعطاء الأولوية للسلطة السياسية بدلاً من القضاء على الفقر، وكانت النتائج مروعة. ووفقًا للمنطق الغربي لتعزيز حقوق الإنسان، تكون النتيجة "ديمقراطية سيئة" في بلد مليء بالفقر، مثل العراق وأفغانستان: غياب النظام الاجتماعي الأساسي وانفجارات تحدث كل يوم تقريبًا. في حين، تعتبر الصين أن القضاء على الفقر من الحقوق الإنسانية الأساسية، حيث أن الصين استطاعت أن تخلق أكبر طبقة وسطى في العالم من خلال انتشال ملايين من الناس براثن الفقر. ووفقاً للمعايير الغربية، فإن القضاء على الفقر ليس حقًا من حقوق الإنسان على الإطلاق، فبعد كل شيء، لا تزال الولايات المتحدة لا تعترف حتى بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذلك، فإن الصين لم تنتظر حتى يعترف الغرب بأن القضاء على الفقر حق من حقوق الانسان، وإنما شرعت في مكافحة الفقر محققة نتائج مذهلة، وهذا تشجيع كبير وتنوير للبلدان النامية ككل، لأن أكبر مشكلة تواجه البلدان النامية هي القضاء على الفقر، ومما لا شك فيه أن المزيد من الدول غير الغربية تأمل في التعلم من تجربة الصين في الحد من الفقر. لقد ارتكب الغرب باسم الديمقراطية جرائم في بلدان عدة، وعبثوا في العراق وليبيا وسوريا، هذه الدول التي لم تكن في الواقع بلداناً فقيرة في الماضي، بل إن بعضها كانت غنية جدًا، وكان نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في الماضي أعلى من مثيله في الصين، والآن تكاد تصبح جحيمًا على الأرض. ومن الواضح أن معضلة حقوق الإنسان الكامنة في الترويج الأصلي لـ "الربيع العربي" من قبل الغرب، لا تتماشى مع الظروف المحلية والوطنية، والنتيجة استياء كبير، أدى إلى كسر بعض التوازنات العرقية والدينية الدقيقة للغاية في الماضي المحلي وتحولت إلى حرب أهلية.
رابعاً، نظرة الغرب لقضايا حقوق الانسان على أنها قضايا قانونية
ينظر الغرب إلى قضايا حقوق الإنسان بشكل أساسي على أنها قضايا قانونية، ويعتقد أن قضايا حقوق الإنسان المقبولة للمحاكم هي وحدها التي يمكن اعتبارها قضايا تتعلق بحقوق الإنسان، وهذا من الصعب العمل به في البلدان النامية ذات الأنظمة القانونية غير المكتملة وقلة كفاءة المحامين في المجال، والتكلفة العالية جدا. ومن تجربة الصين، فإن أفضل طريقة لتعزيز حقوق الإنسان تكون من خلال الوسائل السياسية مع تعزيز بناء سيادة القانون، وهذا أسهل لتحقيق النتائج، وهذه تجربة مهمة للصين في تعزيز حقوق الإنسان. بالطبع، يجب عند مناقشة حقوق الإنسان أن نشير إلى حقوق الانسان الأساسية التي لا يوجد فيها اختلاف في وجهات النظر السائد بين الصين ومعظم دول العالم، على سبيل المثال، حظر التعذيب والعبودية، وحرية الفكر، ولا يمكن اعتقال الأشخاص بشكل تعسفي، إلخ. وقد أثار تعذيب الولايات المتحدة السجناء في غوانتانامو اشمئزاز العالم بأسره.
خامساً، العلاقة بين التقاليد الثقافية للأمة وحقوق الإنسان
لكل مجتمع من المجتمعات هوية ثقافية خاصة، وقد ظهرت التقاليد الثقافية الصينية في وقت أبكر بكثير من مفاهيم حقوق الإنسان الغربية، ولا يمكن تطبيق معايير حقوق الإنسان التي تم تشكيلها في الغرب على كل شيء في العالم، ويجب أن يكون الاتجاه المستقبلي لقضية حقوق الإنسان في العالم هو التسامح مع المزيد من الثقافات والحكمة المختلفة، وذلك لإثراء مفهوم حقوق الإنسان، كما يجب أن نحترس من ممارسة وصف ثقافتنا بأنها "قيمة عالمية" وثقافة الآخرين بأنها عادات متخلفة، ومن ثم فرض ثقافاتنا الخاصة على الآخرين.
سادساً، تدفق اللاجئين وحقوق الانسان
عملت دول الاتحاد الأوروبي بنشاط على الترويج لديمقراطيتها من خلال "الربيع العربي"، بل وقامت بعض الدول بتدخل عسكري مباشر مثل المملكة المتحدة وفرنسا، واليوم وقعوا في مشاكل وأطلقوا النار على أقدامهم، وباتت تشهد تدفق واسعا للاجئين من الشرق الأوسط. حيث يُعتبر تدفق اللاجئين من الشرق الأوسط إلى أوروبا قضية جديدة في السياسة الدولية اليوم، كما أنها تتعلق بحقوق الإنسان، وتعكس المعضلة الكبيرة التي تواجهها آلية حقوق الإنسان الغربية برمتها. حيث أدت الإضرابات التي شهدتها العديد من الدول في الشرق الاوسط إلى نشوب حالة من الفوضى في ليبيا، وخوض اليمن مثل هذا البلد الصغير الذي يقل عدد سكانه عن 20 مليون نسمة، في الوقت نفسه حروبًا قبلية وعرقية ودينية، وحروبًا بين الشمال والجنوب. ونفس المأساة في سوريا، التي كانت قبل 15 عامًا، دولة مسالمة ومزدهرة نسبيًا قريب من مستوى الصين في الثمانينيات. لكن اليوم، أصبح نصف سكان البلاد لاجئين، ودمرت المدن الكبرى. وقد وقعت دول الاتحاد الأوروبي على اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين، التي تحتوي على بند هام يسمى "عدم الإعادة القسرية"، بمعنى آخر، إذا قدم لاجئ طلب اللجوء في بلدك، فلا يمكنك رفضه، ولكن عليك فحص ما إذا كان لاجئًا أم لا، إلا أنه لا يمكن القيام بذلك الآن، وإنما باتت هذه الدول ترسل قوات ثقيلة للتعامل مع الحدود، وسد الأسلاك الشائكة، ورفض البقاء بالخارج، وهذا ينتهك اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين التي وقعت عليها. ومع هذا، لا يزال الغرب يحاول العبث في الصين، التي أخذ شعبها مصير الوطن محمل الجد ومواجهة كل من يسعى إلى العبث فيها.
في الوقت الحاضر، تعاني أوروبا من صعوبات وتحديات اقتصادية عديدة، وهي مسؤولة أمام شعوبها، والأولوية الحالية هي توفير اقتصاد جيد ما يكفي لرعايتهم، ما يعكس صعوبة توفير هذه الدول الموارد لرعاية تدفق اللاجئين. لذلك، يمكن القول هنا، أن دبلوماسية حقوق الانسان تقتصر عند الاوربيين فقط وليس القادة حيث تختلف أراءهم، واتخذ ديفد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني السابق أسلوبا آخر لقول ذلك، حيث أعلن عن فشل سياسة المملكة المتحدة متعددة الثقافات. ولرئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان حجة أخرى، فقد رفض أوربان بوضوح شديد خطة الاتحاد الأوروبي لتقاسم إعادة توطين اللاجئين. وهنا نطرح السؤال: كيف تجرؤ على الترويج لدبلوماسية حقوق الإنسان في العالم وأنت لم تتوصل إلى إجماع حول تطبيقها داخل أوروبا؟ لذلك، أعتقد بشكل عام أن الصين قد وصلت إلى مرحلة يمكن فيها للصينيين أنفسهم أن يعلنوا بوضوح قضايا حقوق الإنسان.