بكين 29 سبتمبر 2022 (شينخوا) أثار رفع بنك الاحتياطي الفيدرالي حديثا سعر الفائدة بواقع 75 نقطة أساس قلقا كبيرا في الأسواق المالية العالمية، لأن آثار الزيادات المتتالية في أسعار الفائدة الأمريكية قد تنتشر في جميع أنحاء العالم.
في الزيادات السابقة في أسعار الفائدة التي أقرها بنك الاحتياطي الفيدرالي، تعاونت مجموعات المصالح والمؤسسات المالية الأمريكية لخلق أزمات ديون في العديد من الأسواق الناشئة لملء أكياس النقود الخاصة بها.
باعتبارها إحدى الأدوات التي تستخدمها الولايات المتحدة لفرض هيمنتها المالية، جعلت هذه الصناديق الانتهازية، على مدى العقود الماضية، الإكوادور والأرجنتين وبيرو وفيتنام والعديد من البلدان النامية الأخرى، رهينة بينما كانت تستحوذ على مبالغ ضخمة من المال.
-- الشراء الافتراسي
مصطلح "الصناديق الانتهازية" هو استعارة تشبه هوس المستثمرين في الديون المتعثرة بالديون الرخيصة الآن وعالية المخاطر في الوقت نفسه، بميل النسور إلى الجيف.
عادة ما تشتري صناديق التحوط الناشطة الديون السيادية لبلدان متخلفة عن السداد، أو قريبة من التخلف عن السداد، بخصومات كبيرة من الأسواق الثانوية، ثم تقاضي بضراوة المدينين للمطالبة بمدفوعات كاملة وتستخدم جميع التكتيكات الممكنة لإخضاعهم، بغض النظر عن المدة التي تستغرقها هذه المعركة؛ ولهذا يطلق عليهم أيضا لقب "مستثمري يوم القيامة".
في حديثها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 2014، اتهمت الرئيسة الأرجنتينية آنذاك كريستينا فرنانديز الصناديق الانتهازية بممارسة "الإرهاب الاقتصادي والمالي"، في إشارة إلى الصراع بين بلدها وجامعي الديون الأشرار، الذي تسبب في "الجوع والبؤس والفقر".
بالعودة إلى تسعينيات القرن العشرين، كان التفاؤل والانتهازية المنبعثان من وول ستريت، جنبا إلى جنب مع التدفق الكبير للأموال إلى الأرجنتين، عوامل جعلت بوينس آيرس تصدر المزيد من السندات بكثير من الأريحية، ما دفع ديونها إلى مستويات أثبتت لاحقا أنها مدمرة.
في هذه الأثناء، كجزء من برنامج الإصلاح الليبرالي الجديد في الأرجنتين المدعوم من واشنطن، ربطت الأرجنتين عملتها البيزو بالدولار الأمريكي وحده، وهو سعر صرف ثابت غريب جعل اقتصادها غير قادر على المنافسة، حيث أدى ارتفاع قيمة العملة إلى خسارة هائلة في الصادرات والتوظيف، وكذلك الكساد الأرجنتيني الكبير 1998-2002.
في عام 2001، تخلفت الأرجنتين عن سداد 100 مليار دولار من السندات السيادية. عرضت الدولة المفلسة تجديد الديون مرتين في 2005 و2010، وقبل ذلك حوالي 92 بالمئة من الدائنين. في المقابل، تجنبت حفنة من الصناديق الانتهازية، التي اقتنصت السندات المتعثرة بأسعار منافسة، عملية التسوية. في عام 2005، استدعت هذه الصناديق الأرجنتين إلى محاكم في الولايات المتحدة، التي لها ولاية قضائية على السندات، لتحصيل أصل الدين ومدفوعات الفائدة.
قدر مارتن إم جوزمان، الخبير الاقتصادي في كلية كولومبيا للأعمال، الذي شغل سابقا منصب وزير الاقتصاد الأرجنتيني، أن شركة "إن إم إل كابيتال"، وهي شركة تابعة لشركة "إليوت للإدارة" يرأسها بول سينجر، دفعت 48 مليون دولار في عام 2008 لمثل هذه السندات بقيمة اسمية إجمالية تقارب 620 مليون دولار.
من منظور بوينس آيرس، كانت الصناديق الانتهازية تبتزها فعليا بشأن قضية الديون، لأنها لم تقدم أي قروض واشترت عن عمد السندات المتعثرة بتكلفة منخفضة.
ومع ذلك، منعت المحكمة الفيدرالية الأمريكية في عام 2014 الأرجنتين من سداد الديون المستحقة لحاملي السندات الآخرين حتى دفعت ديونها المستحقة للدائنين الرافضين، بناء على بند المعاملة المتساوية في قانون العقود، وتمكنت من إجبار الأرجنتين على إبرام اتفاقية في عام 2016 مع الصناديق الانتهازية المعنية، ودفعت لها 4.65 مليار دولار في المجموع، أي ما يعادل 0.83 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي للأرجنتين في ذلك العام، ما وضع حدا للصراع الذي دام 15 عاما.
-- دعم السلطة القضائية الأمريكية
رغم أن انتهازيو وول ستريت كانوا ينصبون أفخاخ ديون في جميع أنحاء العالم على مدار العقود الماضية، إلا أن "الخطيئة الأصلية" نشأت من المؤسسة الأمريكية، التي جعلت من الدول الفقيرة فريسة واعتصرتها حتى الجفاف.
في حالة الأرجنتين، نشأ التخلف عن سداد الديون والأزمة المالية في عام 2001 عن برنامج الإصلاح الليبرالي الجديد المذكور أعلاه الذي انتهجته حكومة الرئيس كارلوس منعم من 1989 إلى 1999، الذي استند إلى "إجماع واشنطن"، وهو مجموعة من السياسات الاقتصادية التي روجت لها المؤسسات التي تتخذ من واشنطن مقرا لها، التي فتحت الباب أمام كارثة الأرجنتين الاقتصادية. عندما تولى السياسيون اليساريون مناصبهم وحاولوا إعادة هيكلة الديون، انطلق المستثمرون الانتهازيون للاستفادة الانتهازية من الديون المتعثرة تحت رعاية الولاية القضائية الأمريكية.
بعد أن رفع حاملو السندات الرافضون بقيادة "إن إم إل كابيتال" دعاوى قضائية، حكم القاضي توماس جريسا من المحكمة الجزئية الأمريكية للمنطقة الجنوبية لنيويورك في عام 2012 بأن الأرجنتين يجب أن تسدد لهم ديونها بالقيمة الكاملة. استأنفت الأرجنتين، الطرف المدين، الحكم أمام المحكمة العليا الأمريكية، لكن المحكمة قررت في النهاية تأييد حكم المحكمة الأدنى.
في يونيو 2014، أودعت الأرجنتين 539 مليون دولار في حساب الوصي المتعاقد، شركة "بنك أوف نيويورك ميلون"، لدى البنك المركزي الأرجنتيني، لتسديد المبالغ المستحقة لمن قبلوا مقايضات الديون، لكن الحُكم الذي أصدره القاضي جريسا منع تحويل الأموال، استنادا إلى فشل الأرجنتين في سداد الديون المستحقة للدائنين الرافضين.
وسرعان ما سددت "ستاندرد آند بورز" لكمة أخرى إلى الأرجنتين من خلال خفض تصنيفها من (بي) إلى (بي سالب)، ما يشير إلى توقعات مستقبلية سلبية بشأن تصنيف البلاد الهاوي بعمق فعلا في منطقة السندات غير المرغوب فيها. وهكذا، أدى خفض التصنيف الائتماني بطبيعة الحال إلى تضاؤل قدرة الأرجنتين على تسديد ديونها.
كتب الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز، الأستاذ في جامعة كولومبيا، في مقال ينتقد فيه حُكم القاضي جريسا، "كانت هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي تكون فيها دولة ما مستعدة وقادرة على تسديد الديون لدائنيها، لكن قاضيا منعها من القيام بذلك". وقال إن الحكم "يشجع السلوك الربوي" و"يهدد عمل الأسواق المالية الدولية".
من الواضح أن الدعاوى القضائية الدولية التي تقوم بها الصناديق الانتهازية الأمريكية مفيدة للهيمنة المالية الأمريكية والولاية القضائية الأمريكية طويلة المدى. ونظرا لعلاقاتهم الوثيقة مع الكونجرس الأمريكي والبيت الأبيض، فإن المستثمرين في وول ستريت لديهم الحافز والقدرة على التدخل في التشريعات وصنع السياسات لتأمين مصالحهم الخاصة، حسبما قال تشانغ يويه ون، الباحث في معهد التمويل والمصارف في الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية.
في تقارير وسائل الإعلام الأمريكية، يوصف سينجر، رئيس "إليوت للإدارة"، دائما بأنه متبرع ضخم للحزب الجمهوري. ووصفته صحيفة ((نيويوركر)) بأنه "ناشط مانح"، في إشارة إلى مشاركته العميقة مع مرشحي الحزب الجمهوري وحملاته.
-- تعميق "فخ التنمية"
في أعقاب تسوية الأرجنتين مع الدائنين الرافضين في عام 2016، ألغى القاضي جريسا الأمر القضائي الذي منع الأرجنتين من جمع أموال جديدة في سوق السندات أو الدفع لدائنيها، ما سمح برفع البلد من فئة "التخلف الانتقائي عن السداد" والعودة إلى أسواق رأس المال العالمية لأول مرة بعد 15 عاما.
ومع ذلك، بالنسبة للبلدان المثقلة بالديون مثل الأرجنتين، كان هذا التأخير الطويل في إعادة هيكلة الديون استنزافا كبيرا للثروة الوطنية، وأدى إلى ضياع فرص النمو والتنمية. ومع تعرض تقريرها الائتماني الدولي لأضرار جسيمة وتعطيل قنوات التمويل، كان طريق الأرجنتين إلى التعافي الاقتصادي طويلا ومؤلما.
قال خوان بابلو بوهوسلافسكي، الخبير المستقل السابق للأمم المتحدة المعني بالديون الخارجية وحقوق الإنسان، "لقد فرضت القضايا التي رفعتها الصناديق الانتهازية تكلفة كبيرة على بعض الدول، ما أدى إلى تحويل الأموال العامة إلى أشكال مشكوك فيها من خدمة الديون، بينما كان ينبغي استخدام هذه الأموال بشكل أفضل لمكافحة الفقر، وتحسين الرعاية الصحية العامة أو التعليم، وتعزيز اقتصادات المدينين ".
وقال الأمين العام السابق لمنظمة الدول الأمريكية، خوسيه ميغيل إنسولزا، إن إفلاس الأوطان سيوجه ضربة للفقراء، لكن هذه ليست "مشكلة كبيرة" للمضاربين الدوليين، الذين تمثل مشاكل ديون الآخرين ثروة لهم.
من عام 2012 إلى عام 2016، تراوح معدل النمو في الأرجنتين بين -2.5 بالمئة و2.7 بالمئة، بينما ارتفع التضخم بين 22.3 بالمئة و41.1 بالمئة. وحتى الآن، لا تزال الأرجنتين الدولة ذات الديون الحكومية الأعلى في أمريكا اللاتينية مقارنة بإجمالي ناتجها المحلي.
للأسف، لم تكن الأرجنتين قط الضحية الوحيدة التي وقعت في الفخاخ التي نصبتها الصناديق الانتهازية، التي افترست مرارا البلدان المتعثرة بالديون من أمريكا اللاتينية إلى آسيا وإفريقيا وأوروبا.
وقال بيير جاكيمو، الذي شغل في السابق منصب السفير الفرنسي في كينيا وغانا، إن 32 دولة إفريقية على الأقل خاضت معارك قانونية مع الصناديق الانتهازية بشأن قضايا الديون المتعثرة. لكن الصناديق الانتهازية حققت فوزا في تلك القضايا بنسبة 75 بالمئة.
في الآونة الأخيرة، حذر لي بوتشيت، خبير إعادة هيكلة الديون الشهير، من أن سريلانكا قد تكون التالية في مرمى المستثمرين الانتهازيين.
أظهرت بيانات من إدارة الموارد الخارجية في سريلانكا أنه حتى أبريل 2021، أصبح الجزء الأكبر من ديون سريلانكا الخارجية مُستحق لصالح الصناديق الانتهازية والبنوك الغربية، وخاصة الأمريكية، التي تمتلك ما يقرب من نصف هذه الديون، بنسبة 47 بالمئة.
في أوائل شهر يونيو، اقتحمت مجموعة من النشطاء، وهم يحملون في أيديهم دمى نسر بالحجم الطبيعي، مقري شركتي "إليوت للإدارة" و"جولدن تري لإدارة الأصول"، وهما صندوقان سيئا السمعة للديون المتعثرة في نيويورك، احتجاجا على الافتراس المالي الذي تعد هاتان الشركتان رمزا له.
هؤلاء النشطاء الذين ملأهم الاشمئزاز من جشع ووقاحة الانتهازيين الذين يربحون من معاناة الأمم، كانوا يهتفون بصوت عال "لا بنس واحد أكثر".