أدلى تيري بريتون، المفوض الأوروبي للسوق الداخلية، بتصريحات علنية لمدة يومين متتاليين يومي 9 و10 يناير الجاري، مؤكدا على أن أوروبا تحتاج إلى تحقيق الاستقلال الدفاعي في أقرب وقت ممكن. كما يخطط لاقتراح " خطة الاستثمار الدفاعي الأوروبي"، واستخدام ما يصل إلى 100 مليار يورو لتشجيع شراء الأسلحة المشتركة وتعزيز إنتاج الأسلحة. ووفقًا لتقارير وسائل الإعلام الأوروبية، فإن إسبانيا وفرنسا والعديد من الدول الأخرى رفضت مرات عدة الانضمام إلى تحالف دولي في البحر الأحمر الذي أنشأته الولايات المتحدة على أساس "التزامات الناتو"، مما يظهر أنهم حذرون للغاية بشأن استخدام قوتهم البحرية لمساعدة الولايات المتحدة على جمع ثمار محفوف بالمخاطر. وإن مثل هذه الاتجاهات تجعل الناس يشعرون مرة أخرى أن أوروبا لديها إرادة قوية لتحقيق الاستقلال الدفاعي العسكري.
أشار دونغ يي فان، باحث في معهد الدراسات الأوروبية في المعهد الصيني للعلاقات الدولية المعاصرة، في مقال تحليلي نشره في صحيفة " غلوبال تايمز" الصينية مؤخراً، إلى أن الاتحاد الأوروبي كان يُنظَر إليه دائماً باعتباره "قوة معيارية" ومعروفاً بنفوذه الاقتصادي، لكنه يدرك ايضاً أنه لن يتسنى له أخذ زمام المبادرة في تشكيل البيئة الجيوسياسية والعلاقات بين القوى الكبرى، إلا من خلال تعزيز قدراته الدفاعية بشكل كبير وتقليل اعتماده على الولايات المتحدة ومنظمة حلف شمال الأطلسي. لذلك، اقترحت الدول الأوروبية وساستها من ذوي الرؤية الاستراتيجية السعي إلى الاستقلال في مجال الدفاع كلما سنحت لهم الفرصة، وهو ما يكاد يصبح نوعاً من "الوعي".
ويعتقد دونغ يي فان، أن " الوعي الدفاعي" في أوروبا قد واجه العديد من العقبات على مستوى التنفيذ المحدد بالمقارنة مع الرؤية الجيدة لأوروبا.
أولاً، الاختلاف المعرفي بين دول الاتحاد الأوروبي بشأن الأساس للضمانات الأمنية
منذ الحرب العالمية الثانية، اختلف الأوروبيون بين "الأوروبية" و"الأطلسية" في فهمهم لقضايا الدفاع، وغالبا ما يسود الأخير. ولا تنظر بولندا ودول البلطيق إلى حلف شمال الأطلسي باعتباره الضمانة الأساسية للأمن الأوروبي فحسب، بل إنه حتى ألمانيا، أحد "الأعمدة الفقرية" لأوروبا، تنظر إلى حلف شمال الأطلسي باعتباره أكثر أهمية من التخطيط الدفاعي لأوروبا أيضاً، كما يضطر فرنسا التي تتمتع بمفاهيم استراتيجية مستقلة قوية، إلى التخفيف من حدة انتقاداتها لحلف شمال الأطلسي في مواجهة الأجواء "الصحيحة سياسياً" في ظل الأزمة الأوكرانية. وإذا لم تكن الدول الأوروبية متحدة، فسوف يكون من الصعب تشكيل تأثير تكتل سواء كان ذلك على مستوى أبحاث وتطوير الأسلحة، أو الشراء، أو بناء القدرات القتالية المشتركة.
ثانياً، بروز التناقض بين السعي لـ"القوة الذاتية" للاتحاد الأوروبي و"السلام"
من منظور الهدف الأساسي، فإن ما يسعى الاتحاد الأوروبي لتحقيق الاستقلال الدفاعي ليس أكثر من الإمساك بالأمن بين يديه وخلق بيئة محيطة أفضل لتنميته. ومع ذلك، فإن العديد من الجهود التي بذلها الاتحاد الأوروبي لتحقيق هذه الغاية أدت في الواقع إلى تفاقم تدهور الوضع الأمني المحيط، على سبيل المثال، عملت "خطة الاستثمار الدفاعي الأوروبي" التي روج لها بريتون في الواقع على تعزيز قدراتها في مجال المشتريات والإنتاج من أجل تحقيق هدف "إيصال مليون طلقة من القذائف المدفعية إلى أوكرانيا" في أسرع وقت ممكن، وهي في الواقع تتحرك في اتجاه تعزيز استمرار الصراع الروسي الأوكراني. وإن النهج الذي تتبعه أوروبا في التعامل مع الصراعات في الشرق الأوسط وأفريقيا ومناطق أخرى، بل وحتى التعامل مع العلاقات مع الأطراف، كثيراً ما يتعارض مع السلام، على سبيل المثال، حافظت دول الاتحاد الأوروبي حتى الآن على موقف "الدعم الثابت لحق إسرائيل في الدفاع عن النفس" فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي. وفي ظل هذا الاتجاه، يصبح الاتحاد الأوروبي عُرضة للوقوع في مستنقع من السيطرة المتزايدة والفوضى في مواجهة الأمن المحيطي، في مواجهة الأزمات الوشيكة قصيرة المدى، يتعين عليها أن تزيد من اعتمادها على القدرات العسكرية والاستخباراتية للولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى تقييد بناء دفاعاتها من حيث استثمار الموارد والإرادة السياسية.
ثالثاً، الموارد المالية المحدودة تشكل أكبر عائق أمام الاستقلال الدفاعي الأوروبي
بالنظر إلى عملية التنمية في أوروبا ما بعد الحرب، فإن الدول الأوروبية لم تستثمر الكثير في المؤسسة العسكرية بسبب التحديات الأمنية العسكرية التقليدية لفترة طويلة. وبدلاً من ذلك، ركزت مواردها المالية العامة بشكل أكبر على سبل العيش الاجتماعي والمجالات الاقتصادية. ومع ذلك، بعد أزمة الديون الأوروبية، انكشفت مشكلة العجز المالي في دول الاتحاد الأوروبي بالكامل، وكان عليها أن تولي المزيد من الاهتمام للعيش في حدود إمكانياتها. وفي السنوات الأخيرة، واجه الاتحاد الأوروبي أزمات داخلية وخارجية على التوالي مثل أزمة اللاجئين، والأوبئة، وأوكرانيا، وشهدت موارده المالية ضعف مستمر بسبب "نفقات إخماد الحرائق". وفي الوقت الحاضر، لا يتعين على الاتحاد الأوروبي والدول الأعضاء فيه السعي جاهداً للعودة إلى المسار الطبيعي المتمثل في "الانضباط المالي"، بل يتعين عليه أن يحافظ على زيادة الاستثمار المالي العام أيضاً، كما منعت المحكمة الدستورية الألمانية منذ وقت ليس ببعيد، الحكومة من استخدام صندوق الأوبئة الخاص للمشاريع الخضراء، مما يدل على أن الدول الأوروبية المعنية تهتم بالميزانية وتعيش حياة ضيقة. وفي السنوات الأخيرة، اقترحت العديد من الدول الأوروبية خططاً لزيادة الإنفاق العسكري، ولكن بسبب القيود المالية، لم تتمكن هذه الدول إلا من القيام ببعض الاستثمارات "التعويضية" في القوات المسلحة، ولا يمكنها دمج وبناء النظام الصناعي الذي يعتمد عليه الدفاع المستقل بشكل كامل.
إن "الوعي الدفاعي" الذي أظهرته أوروبا باستمرار هو جزء مهم من استقلال أوروبا الاستراتيجي، كما أن تحقيق الاستقلال الدفاعي هو الرؤية الثابتة والاتجاه لجهود الشعوب الأوروبية ذات البصيرة، لكن الطريق لا يزال طويلاً في ظل البيئة السياسية الحقيقية.