وليد عبدالله
26 يناير 2024/صحيفة الشعب اليومية أونلاين/ قد يُخدع الزائر إلى مدينة تشيوانتشو اليوم بالهدوء الذي يلفّها، وبتواضع أهلها وبضعف تنميتها ومستوى انفتاحها مقارنة بالمدن الصينية الكبرى. لكن زيارة واحدة إلى متحف تشيوانتشو البحري ستقلب كل أحكامه المسبقة. وجولة واحدة في شارع "شين من" ستجعل رأسه يضجّ بالأسئلة حول تاريخ المدينة. وفي زخارف جدران المباني والمعابد سيعثر الزائر إلى تشيوانتشو، على كنوز من الأسرار تحكي قصّة تاريخ تشيوانتشو، أو كما عرفها العالم قديما شرقا وغربا باسم "مدينة الزيتون".
بزغ نجم تشيوانتشو في سماء العالم خلال حقبتي سونغ ويوان الصينيتين (960 – 1368 م). ومع تطوّر صناعة السفن وتراجع مكانة طريق الحرير البري بسبب الاضطرابات التي عصفت به أواخر حكم سلالة تهانغ (618 م – 907 م)، برزت تشيوانتشو كمركز تجاري عالمي على طريق الحرير البحري القديم، ومثلت أيضا نقطة انطلاقه.
وظلّت تشيوانتشو لقرون قبلة للتجار العرب والفرس والهنود والأفارقة والأروبيين وغيرهم من الأجناس. وكذلك وجهة ساحرة للرحّالة والمغامرين، على غرار ماركو بولو الذي زارها في عام 1257، وابن بطوطة الذي قدم إليها في عام 1346 وكتب عنها طويلا.
وقد اصطحب هؤلاء التجار والرحّالة معهم ثقافاتهم وأديانهم وفنونهم إلى مدينة الزيتون، وأسهموا في ازدهارها على مختلف الأصعدة، وتركوا بصمة لاتمحى في تاريخها. مما جعل المدينة تصبح واحدة من الأمثلة الرائعة على التعايش بين الأديان والأعراق والثقافات، وملتقى للشرق والغرب.
التناغم بين الثقافات صنع شخصية فريدة لمدينة الزيتون
يعد التعايش الديني والتناغم بين الثقافات سمة رئيسية في ثقافة مدينة الزيتون. وعناصر أسهمت في تشكيل شخصية فريدة للمدينة. وعلى طول المدينة وعرضها، لاتخلو تشيوانتشو من الشواهد الأثرية والحيّة على التعايش والتناغم الذي عرفته الثقافات الأجنبية مع الثقافة الصينية في المدينة.
في متحف تشيوانتشو البحري توجد مئات القطع الأثرية، التي تحمل كتابات بلغات متعدّدة، على غرار العربية واللاتينية والهندية. وهي علامات واضحة على الثراء اللغوي والتنوع العرقي الذي ميّز تشيوانتشو طوال قرون خالية. كما يحتوي المتحف على نصب جنائزية لأديان مختلفة، مثل الإسلام والمسيحية والهندوسية والبوذية. مما يعكس أيضا التنوع الديني والثقافي الذي عاشته المدينة.
وفي وسط المدينة، لا تزال هناك العديد من الشواهد الحضارية التي تعكس تسامح تشيوانتشو وانفتاحها على الثقافات الأجنبية. ففي شارع تومن، توجد أطلال جامع الأصحاب الذي بني في عام 1009 بطراز معماري عربي أصيل. وفي نفس الشارع، وعلى بعد عشرات الأمتار من الجامع، يوجد معبد قوان دي الطاوي، الذي بني على الطراز الصيني المحلّي.
ظاهرة تجاور المعابد التي تعبّر عن التعايش بين الأديان، توجد في عدّة أماكن أخرى أيضا بمدينة الزيتون. وفي تقاطع وسط شارع شي جيه، بني على يمين التقاطع معبد "كاي يوان سه" البوذي، وفي غرب التقاطع بنيت كنيسة تشوانشيتانغ المسيحية.
وفي تشيوانتشو هناك ظاهرة أكثر عمقا للتعايش بين الأديان والثقافات. حيث تجد دور العبادة من مختلف الأديان تتأثر ببعضها البعض، وتأخذ من بعضها البعض، في وضع يمكن وصفه بأنه انفتاح عابر للأديان والثقافات. وعلى سبيل المثال، في معبد "تياهوقونغ" لديانة المازو المحلّية، ستجد عمودين حجريين في مدخل القاعة الخلفية، يحملان نحوتا للديانة الهندوسية. وفي معبد ”كاي يوان سه“ البوذي، ستجد عدة عناصر للدّيانة الهندوسية أيضا. وفي بلدة بايتشي لعشيرة قوه لقومية هوي المسلمة، يوجد معبد لعشيرة قوه صمّم على طريقة المعابد الصينية التقليدية. وغير بعيد عنه، يوجد معبد بوذي، لكن محرق البخور في المعبد صمّم بأقواس عربية. ولذلك يمكن القول، بأن التعدّدية الدينية والثقافية في تشيوانتشو قد وصلت إلى الوضع المثالي لمفهوم التناغم الذي تنشده الثقافة الصينية. وأسهمت في تشكيل شخصية متفرّدة للمدينة، وإشباعها بالروح الإنسانية.
بعد مضيّ قرون طويلة، ثقافة طريق الحرير لاتزال حيّة في المدينة
رغم مرور مايزيد عن 6 قرون على العصر الذهبي لمدينة الزيتون. إلا أن آثار ذلك العصر لاتزال حيّة إلى اليوم في ثقافة المدينة وفي حياة سكّانها. وحينما تسير في شوارع المدينة ستلاحظ وجود عناصر معمارية وزخارف من ثقافات أجنبية تختلط مع العناصر الصينية لتزين واجهات المباني التقليدية والعصرية. مثل الأقواس العربية التي تزيّن العديد من الأبواب والنوافذ، وكذلك الزخارف الأوروبية. وهناك بعض المحلّات تضع على مدخلها زوجا من تماثيل الفيلة، واحد من كل جهة. وعادة ما يستعمل الصينيون تماثيل الأسود في هذا المكان بالذات. في حين تعد تماثيل الفيلة عنصرا ثقافيا أجنبيا، انتقل إلى المدينة عبر طريق الحرير البحري.
وفي حيّ عشيرة قوه لقومية هوي المسلمة، لايزال السكان يسكنون بيوتا من الحجارة ذات تصاميم نادرة الوجود في الصين. وتستعمل هذه البيوت نفس الحجارة التي بُني بها جامع الأصحاب في وسط المدينة، وكذلك نفس النمط المعماري. لكن هذه البيوت، هي اليوم أقرب إلى مزيج بين العمارة العربية والصينية.
وفي ورشة أرضية بمنطقة تشيوانقانغ، لايزال حرفيّ يدعى لين بي زونغ يحافظ على صناعة قوارب الجنوك الصينية القديمة بالطريقة التقليدية. حيث يمثّل الجيل الحادي عشر من عائلته التي عملت في هذه الصناعة منذ زمن طويل. ولقوارب الجنك شهرة واسعة في فترة سونغ ويوان. وقد ذكرها ابن بطوطة في مذكراته، وقدّم شرحا مفصّلا عن طرق صنعها وتشغيلها ومزاياها في الملاحة، كما ذكر أن أغلب سفن الجنك تُصنع في تشيوانتشو وقوانغتشو. ورغم أن الجنوك لم يعد لها أي استعمال عملي في الوقت الحالي، إلا أن لين بي زونغ، يحرص على توارث حرفة أجداده، تكريما للدور الذي لعبته هذه السفن في التجارة إبان العصور القديمة.
وفي حيّ شونبو، لاتزال آثار طريق الحرير البحري بادية للزائرين من خلال فن العمارة وحياة الناس. حيث لاتزال الجدران الملبّسة بالصدف تنتشر في مختلف الشوارع. وهذا النمط في البناء تم توارثه منذ عصور طريق الحرير البحري. حيث كانت السفن الأجنبية التي تأتي دون بضائع إلى مدينة الزيتون، تقل حمولة من الصدف من أجل أن تثبت فوق الأمواج. وبعد الوصو يُرمى بالصدف بالقرب من الميناء، فيأخذه السكان ويستعملونه في البناء. ومنذ ذلك الزمن، لايزال سكان حي شونبو إلى اليوم يحافظون على هذا التراث الذي تحوّل إلى ميزة تشتهر بها عمارة الحيّ.
إلى جانب البناء بالصدف، يحافظ سكان حيّ شونبو أيضا على زينة إكيل الزهور. وهي تراث محلي يعود كذلك إلى زمن طريق الحرير. حيث تقول بعض المصادر، أن زينة إكليل الزهور لدى نساء شونبو، تعود إلى العرب الذين سكنوا تشيوانتشوفي حقبتي سونغ ويوان. والذين أدخلوا إلى تشيوانتشو زراعة العديد من أزهار الزينة النادرة. واليوم، أينما تنقلت داخل حيّ شونبو، سترى نساء الحيّ يتوجن رؤوسهن بأكاليل الزهور.
تمثل تشيوانتشو مثالا حيّا على الالتقاء بين الشرق والغرب، وعلى التعايش بين الأديان والثقافات. لكنها تعكس أيضا انفتاح الثقافة الصينية على العالم بتعدديته الصاخبة، وقدرتها على جعل الثقافات الدخيلة تتأقلم مع الواقع الصيني وتحقيق التناغم. ومع إحياء طريق الحرير البحري للقرن الواحد والعشرين، فإن تشيوانتشو تمثل مصدرا ملهما للصين والعالم في تحقيق الازدهار والتعاون البراغماتي، جنبا إلى جنب مع الحفاظ على التعدّدية والاختلاف والتنوع.