فوزي بوذياب، صحفي لبناني
تتزاحم الأفكار والانطباعات في مخيلة المتجول في أرجاء معرض الصين الدولي السابع للاستيراد، وتتداخل الصور المكثفة للمساحات الكبيرة لتي تضيق أمام الكم الهائل من المنتوجات والصناعات المختلفة الأشكال والأنواع والجنسيات، وتتعثر قدرة الذاكرة البشرية عن تخزين ملامح عشرات الآلاف الأشخاص الذي غصت بهم مداخل وأروقة المعرض بأجنحته الأربعة في مدينة شنغهاي العريقة بتاريخها وحداثتها وموقعها الجغرافي والاقتصادي والتجاري والمالي العالمي.
يتميز معرض شنغهاي 2024 عن غيره من معارض التجارة والتصدير التي تستضيفها عواصم عديدة، فانتظام إقامة هذا المعرض في شهر نوفمبر من كل عام وللسنة السابعة على التوالي ومضاعفة مساحته الاستيعابية سنويا لاستضافت أعداد جديدة من الدول والشركات والمنظمات وإتاحة الفرصة لها للمشاركة في هذه الفعالية الاقتصادية المتنامية بشكل مضطرد سنويا، منذ عام 2018 بتوجيه من الرئيس الصيني شي جين بينغ، إضافة إلى زيادة حجم وقيمة الصفقات والاتفاقيات المداخيل المرتبطة بالاستثمار التجاري والصناعي والأسواق الناشئة، ما يجعل هذا المعرض ليس الأول من نوعه على المستوى الوطني وعلى على الاستيراد العالمي فقط، لا بل نافذة لبناء نمط صيني جديد للتنمية والصناعة والتجارة والاقتصاد العالمي، ومنصة لتعزيز الانفتاح والتبادل والتعاون عال المستوى لا سيما في مجالات الصناعات الذكية المرتبطة بالذكاء الاصطناعي، في مجالات الطاقة النظيفة والتكنولوجية المتطورة، الصحة الفائقة الدقة، إضافة الى كونه مساحة متقدمة للابتكار العلمي المرتبط بالتنمية عالية الجودة ومنتجا عاما يخدم إنماء التجارة العالمية لا سيما دول الجنوب والدول الفقيرة التي وفرت إدارة المعرض مساحة مجانية لعرض منتوجات بلدانها في خطوة هي الأولى من نوعها والتي لا تخدم توسيع الأسواق فحسب انما دفع هذه الدول لتبني مشاريع التنمية القائمة على الإصلاح والانفتاح.
من الانطباعات المهمة التي تميز معرض شنغهاي 2024، اعتماده منصة مهمة لأطلاق المنتجات والتكنولوجيات والخدمات الجديدة، ومنها ما قد يدخل الأسواق بعد سنوات، ليس من الشركات الصينية فحسب انما من الشركات الرائدة عالميا، ما يجعل من الصين محط ثقة عالية في حماية حقوق الملكية الفكرية ومساحة تنافسية في الابتكار والاستثمار الذكي، ولعل ما يعزز هذا الاتجاه إنشاء "منطقة حاضنة الابتكار" ركزت على المجالات الرئيسية للتطوير، بما فيها الاقتصاد الرقمي والاقتصاد الأخضر ومنخفض الكربون وعلوم الحياة وتكنولوجيا التصنيع، مما يوفر الدعم المهني لنمو الشركات الناشئة الصغيرة، وإطلاق "منتدى التعاون العالمي الأول للذكاء الاصطناعي" الذي يؤسس لعالم جديد من الصناعة، يدفع بالشركات الصينية نحو العالمية، كما سيدفع عملية تطوير البحث العلمي بالجهود المتضافرة عالميا وسيعزز تقاسم فرص التنمية والإنجازات بين الدول في مجال الذكاء الاصطناعي وتسريع استخدام التكنولوجيا الفائقة في جميع أنحاء العالم.
مما لا شك فيه أن معرض الصين الدولي للاستيراد يخدم تطلعات الصين التجارية والاقتصادية، واهتمامها بفتح الأسواق العالمية امام الشركات الصينية، وبالتوازي مع حفاظها على موقعها كمصنع للشركات العالمية، فإنها تعمل على توفير فرص جديدة أمام الشركات العملاقة والقابضة في الأسواق الصينية، حيث نجحت القيادة الصينية في السنوات العشر الماضية من تحديث وتطوير قدراتها واعتمادها سياسة تنمية شاملة مكنتها من القفز بخطوات سريعة في مكافحة الفقر ودفع المجتمع الصيني نحو "العيش الرغيد"، من خلال توسيع حجم الطبقة الوسطى ورفع مستوى الدخل للفرد والاسرة، واعتماد سياسة مالية تجعل من الصين سوق حيوي ناشط أمام المنتجات الجديدة، فالصين اليوم لا تمتلك موارد السوق وميزة التصنيع فقط ، بل هي أيضًا دولة رائدة في الابتكار ودولة للمهندسين، كما هي واحدة من الأسواق الخارجية الأكثر أهمية بالنسبة للشركات الخارجية.
وانسجاما مع توجهات السياسة الصينية في الإصلاح والانفتاح والحوكمة العالمية وتنفيذا لمبادرات الرئيس الصيني شي جين بينغ قدم معرض الصين الدولي للاستيراد لدول تمتد من القارة الأفريقية إلى قلب آسيا أكثر من 120 كشكا مجانيًا، ليس لعرض المنتجات الأفريقية فحسب بل لفتح أسواق الصين والعالم أمام منتجات القارة السمراء، ما يضيف على المعرض بعدا جديدا في تنفيذ مبدأ التعددية الحقيقية، والتغلب على الصعوبات والتحديات التي تواجه تطور الاقتصاد العالمي، وجعل الانفتاح يخلق مستقبلًا مشرقًا جديدًا للتنمية العالمية. كما أنه يؤسس لمرحلة جديدة من التبادل التجاري المدفوع نحو التخصصية في الإنتاج وفق معايير الجودة والنوعية الأقل كلفة المرتبطة بمقاييس الجدوى الاقتصادية.
لذلك يمكننا القول إن معرض الصين الدولي للاستيراد بنسخته السابعة يؤسس لعالم جديد من التجارة التبادلية التخصصية المرقمنة، والصناعات الذكية عالية الجودة الخضراء الخالية من الانبعاثات الكربونية التي تحاكي متطلبات العصر الجديد، وانه بات محطة انطلاق جديدة لعولمة اقتصادية حديثة عالية الجودة قائمة على التعاون والشراكة والتبادل التجاري والمعرفي والصناعي بين الدول وبين قوى الانتاج في القطاعين العام والخاص.
وإن مدينة شانغهاي، لم تعد فقط مركز الاستيراد والتصدير الدولي ولا مدينة التجارة العالمية، إنما مدينة الحداثة المتجذرة بالأصالة، وواحة خضراء تكثر فيها الجامعات ومنتديات العلم والمعرفة ومراكز الفكر الثقافة، وهي عاصمة العولمة الجديدة والمستقبل الذكي الأخضر.