غزة 4 سبتمبر 2025 (شينخوا) في أحد مخيمات النزوح غرب مدينة غزة، جلس المسن الفلسطيني ماهر المصري، على كرسي بلاستيكي متهالك ينتظر دوره أمام نقطة طبية للحصول على حصته من جرعات الأنسولين التي تبقيه على قيد الحياة.
ففي قطاع غزة تمتد معاناة السكان جراء الحرب إلى تفاصيل الحياة اليومية البسيطة، حتى تلك التي ترتبط بجرعة دواء صغيرة قادرة على إبقاء مريض السكري على قيد الحياة.
ويقول المصري البالغ من العمر (65 عاماً) بصوت متعب لوكالة أنباء ((شينخوا)): "زرت أربع نقاط صحية خلال يومين كاملين بحثاً عن الأنسولين، لكنني عدت دونها… كلما وصلت إلى نقطة، يعتذرون لي بأن الكمية نفدت… لا أعرف ماذا أفعل بعد الآن".
وبعد ساعات من الانتظار عاد الرجل المسن إلى خيمته المتهالكة دون أن يحصل على الأنسولين، قائلا "أنا أموت في اليوم ألف مرة ولا أعلم كيف يمكنني الحصول على الأنسولين. إنها غير متوفرة بشكل مستمر كما كانت قبل الحرب، ونحن نواجه مصيرنا وحدنا".
حتى وإن حصل على جرعته المطلوبة، يشرح الرجل أن المشكلة قد لا تنتهي، خاصة وأن خيمته لا تتوفر فيها ثلاجة أو كهرباء، مؤكداً أن الجرعة قد تتلف قبل انتهاء صلاحيتها.
وفي مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، كان الحظ أرفق قليلاً بسعاد سليم (50 عاماً)، النازحة من مدينة غزة، التي حصلت على جرعة أنسولين من عيادة ميدانية تديرها إحدى المنظمات الطبية الدولية بعد انتظار طويل.
وتقول بابتسامة خفيفة سرعان ما تلاشت لـ((شينخوا)) "هذه أول جرعة منذ أربعة أسابيع".
وتضيف أن التحدي لا يتوقف عند الحصول على العلاج، بل في كيفية حفظه: "أضطر أحياناً إلى دفع المال مقابل وضع الجرعات في ثلاجات خارجية، وأحياناً أضعها في كيس ماء بارد أو وعاء فخاري… كل شيء هنا بات يعتمد على الحيلة".
لكن لا ينجح الجميع في ذلك. فالشاب خالد عثمان (25 عاماً)، الذي ولد مصاباً بالسكري، واجه تجربة مؤلمة حين اضطر لاستخدام عبوة أنسولين تالفة.
ويقول عثمان: "شعرت بارتفاع في حرارتي وتقلبات خطيرة في مستويات السكر، كنت أشعر أنني أفقد السيطرة على جسدي شيئاً فشيئاً، حتى وجدت نفسي في المستشفى".
ويضيف بصوت يحمل الكثير من التعب: "كنت أعلم أن الأنسولين غير محفوظ بطريقة صحيحة، لكن لم يكن لدي خيار آخر. إما أن أستخدمه وأخاطر بمضاعفاته، أو أتركه وأدخل في غيبوبة سكر قد تودي بحياتي".
ويتابع: "عندما وصلت إلى المستشفى، أخبرني الأطباء أن الجرعة التالفة سببت لي التهاباً حاداً وأربكت توازن جسمي. تخيل أن العلاج الذي من المفترض أن ينقذني كان السبب في مضاعفة أوجاعي".
ويشير الشاب، وهو أب لطفلين صغيرين، إلى أنه يخشى تكرار التجربة ذاتها في أي وقت، موضحاً: "لا أستطيع أن أرى أطفالي يكبرون وأنا كل يوم أعيش هذا الخوف. الحرب سرقت منا الأمان، وحتى الدواء الذي نعتمد عليه لم يعد آمناً".
واندلعت الحرب في قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، وأودت بحياة أكثر من 63 ألف فلسطيني، بعد هجوم مفاجئ شنته حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على جنوب إسرائيل وأسفر عن مقتل 1200 إسرائيلي واحتجاز رهائن.
ولم تترك لأصحاب الأمراض المزمنة فرصة للنجاة بسلام، إذ تفرض إسرائيل حصاراً مشدداً على قطاع غزة منذ ذلك الوقت، لكنها شددته بشكل كامل منذ الثاني من مارس بعد انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار مع حماس.
ويؤكد أخصائي السكري الدكتور محمد صيام أن مرضى القطاع يواجهون "كارثة حقيقية"، موضحاً "أن المصاب بالسكري من النوع الأول قد يفقد حياته في غضون ساعات إذا لم يحصل على الأنسولين".
ويشرح صيام أن خطورة الوضع تكمن في أن مرض السكري لا يحتمل التأجيل أو الانتظار، قائلاً: "هذا مرض يتطلب متابعة يومية دقيقة، وأي خلل بسيط في توازن الأنسولين أو الغذاء قد يقود المريض إلى غيبوبة أو مضاعفات تهدد حياته".
ويضيف: "ما نراه اليوم هو أن المرضى مجبرون على تقليل جرعاتهم أو استخدام أنسولين فاسد أو منتهي الصلاحية، وهذا أشبه بمنحهم سماً بطيئاً. بعضهم ينهار فجأة في الطرقات أو داخل الخيام لأن أجسامهم لم تعد تتحمل هذا الضغط".
ويتابع صيام أن غياب أجهزة الفحص وشرائط القياس يزيد من خطورة الموقف، حيث تعتمد العائلات على التقدير العشوائي، مضيفا "نحن نتلقى يومياً حالات لأطفال تناولوا جرعات غير مناسبة بناء على تقديرات أهاليهم، وبعضهم يصل إلينا وهو في غيبوبة كاملة".
ويشير الطبيب إلى أن استمرار منع إدخال الأدوية وأدوات الفحص يمثل "عقاباً جماعياً لآلاف المرضى الأبرياء".
ويضيف بلهجة حزينة: "لا يمكننا أن نطلب من مريض السكري أن ينتظر حتى تفتح المعابر أو حتى تصل المساعدات، لأنه في كل ساعة من التأخير قد نفقد إنساناً".
وبينما يتحدث الأطباء عن أرقام وتحذيرات، يعيش أولياء الأمور مع قلق يومي لا ينتهي. ومن بين هؤلاء الفلسطيني وليد عبد العال (42 عاماً) الذي كان ينظر إلى طفله علي (7 أعوام) بقلق بالغ.
ويقول عبد العال : "كل ليلة أنام وأنا خائف أن أستيقظ على كارثة… هذا مرض يمكن التعايش معه بسهولة في الظروف الطبيعية، لكنه هنا أصبح سلاحاً آخر يهدد حياة ولدي".
ويضيف: "في كثير من الأحيان يطلب أن يأكل أي شيء حلو المذاق بسبب هبوط مستوى السكر في دمه. ولكن في كثير من الأحيان لا نجد سوى قطعة خبز يابسة… فاضطررنا إلى تقليص جرعة الأنسولين من 14 إلى 3 وحدات يومياً خوفاً من غيبوبة مفاجئة تصيبه".
ومثل علي، يعيش مئات الأطفال قصصاً مشابهة.
ويقول المدير التنفيذي لجمعية (حيفا لأطفال السكري) عوني شويخ، إن جمعيته تقدم خدمات لنحو 800 طفل مريض بالسكري في غزة، لكن الوضع يزداد سوءاً مع استمرار الحصار.
ويشير إلى أن أربعة أطفال توفوا هذا العام فقط بسبب مضاعفات ناتجة عن نقص الأنسولين أو سوء التغذية.
ويؤكد أن حياة أطفال السكري معقدة، فهم لا يستطيعون أخذ الأنسولين دون تناول الطعام، وإذا تناولوه دون غذاء يتعرضون لانخفاض السكر، وإن امتنعوا عنه تتلف أعضاؤهم الداخلية.
ويضيف شويخ "أن غياب أجهزة الفحص والشرائح يجعل الأسر تعتمد على التقدير، فيعطون الطفل الأنسولين أو قطعة حلوى دون معرفة حالته الدقيقة، وقد يؤدي ذلك إلى نتائج قاتلة".
وتعجز المستشفيات في غزة تماماً عن استيعاب حالات غيبوبة السكر، فلا طواقم طبية كافية، ولا أدوية، ولا حتى أسرّة كافية، وفق شويخ.
ويختتم شويخ حديثه قائلاً: "إن حياة أطفال السكري أصبحت معلقة بقطعة حلوى، أو قلم أنسولين، أو شريحة فحص، وكلها مفقودة. نناشد العالم بتوفير دعم عاجل ومستدام لهذه الفئة الهشة التي تواجه خطر الموت في كل لحظة".
ووفق وزارة الصحة في غزة، فإن أكثر من 60 ألف مريض بالسكري يواجهون خطر الغيبوبة أو الفشل الكلوي أو حتى بتر الأطراف بسبب انقطاع سلاسل التوريد الطبية وغياب الكهرباء اللازمة لحفظ العلاج المبرد.