الأخبار الأخيرة

المدينة الصينية وتداخل الأزمنة: رحلة في التاريخ والفكر والثقافة (2)

/صحيفة الشعب اليومية أونلاين/  13:51, October 06, 2016

    اطبع
المدينة الصينية وتداخل الأزمنة: رحلة في التاريخ والفكر والثقافة

وليد عبدالله، كاتب وباحث تونسي مقيم بالصين

لم تكن رحلتي إلى مدينة تيانجين مؤخرا مجرد رحلة سياحية فقط، بل كانت رحلة حقيقية في عالم الفكر والثقافة وسبرا لأغوار التاريخ الصيني. إنتقلت بين ثلاثة آماكن بينهم موقعان سياحيان، وجدت أن هذه الأماكن الثلاثة تعبر عن تداخل أزمنة مختلفة ومتناقضة، وشعرت بأن لها رغبة في البوح بكل فصول التاريخ الصيني الحديث وماعاشه المجتمع الصيني من تغيرات منذ مايزيد عن مئة سنة، نزلت عند هذه الرغبة وتركت نشوة السائح وتحليت بصرامة الباحث لأغوص في ما تخبئه الجدران والشوارع من ذاكرة ورمزية، لأشرح لغز تداخل الأزمنة في هذه المدينة وأصل حلقات التاريخ بعضها ببعض، لنفهم كيف تروي هذه الأماكن الصغيرة تاريخ أمة بأكملها.

بدأت رحلتي من شرق المدينة على الطرف الساحلي، يبدو على المنطقة مظهر المدينة الصناعية القديمة، لقد كانت تيانجين كغيرها من مدن الشمال الصيني قاعدة للصناعة الثقيلة بعد تأسيس الصين الجديدة، وعلى الطريق شاهدت مباني تعرف بطراز "خورتشوف"، تركت فترة الإقتصاد المخطط بصمات عميقة على معمار مدن الشمال الصيني، وتأثرت عمارة المدن الصينية في تلك الفترة بالعمارة السوفيتية،يمكن أن نسمي هذا الطراز بالمعمار الشيوعي نظرا لإرتباط تصاميمه الهندسية بالتصورات الشيوعية لتنظم المجتمع.

تكون المباني عريضة وطويلة بلون واحد وبأشكال هندسية تقليدية متشابهة، وبإستثناء مباني الأجهزة الرسمية تكون المباني خالية من أي إضافة فنية، وهي تجمعات سكنية أشبه بمعكسرات، الهدف منها إيواء أكبر عدد من الناس، ويعد التشابه في التصاميم والألوان والأقياس تجليا من تجليات عدالة التوزيع.

تعبر هذه المجمعات السكنية الضخمة والطويلة على تراجع المجال الخاص لصالح المجال العام، مثلا أحيلت شؤون تربية الأبناء والعناية بالمسنين والطبخ في فترة الإقتصاد المخطط إلى أجهزة خاصة، لتخصص القوى العاملة أكثر مايمكن من وقت للإنتاج. يمارس الناس هوايتهم بشكل جماعي، وتعوض المناطق الخضراء العمومية إن وجدت شرفات المنازل الخاصة، لذلك لم أر في هذا النوع من المباني أي شرفة.

من زاوية فنية، لاتبدو على هذه المباني أي زينة أو جاذبية للعيش، لأن التنظم الإجتماعي الذي أُستلهم منه هذا التصميم، يجعل من "التعاضدية" أو"البلدية الشعبية" مثلا بديلا عن العائلة، فالبيوت لاتمثل إلا مكانا للراحة والهدوء بعد يوم من التعب، بينما تكمن متعة الحياة في الجماعة، سواء في الإنتاج أو الأنشطة الثقافية أوتناول الطعام، وهي تعبر عن فلسفة قتل الأنانية والذوبان في الجماعة داخل النظريات الإشتراكية. لذا يكون كل مايعبر عن الحياة الفردية قبيحا ومملا مثل هذه المساكن، في حين يكون الجمال والمتعة في الحياة الجماعية. ولذلك حينما تمر اليوم بجزء من هذه المباني المصممة للسكن، تشعر ببؤس المكان وملل التشابه وفتورالأشكال والألوان، ولاترى فيها أي روح فنية، لأن الروح في المجتمع الإشتراكي تكمن في الجماعة، شاهدت هذا النوع من المباني في داليان أيضا وإنتباني نفس الشعور.

أما الطريق المجانب لهذه المباني فكان عريضا جدا ومستقيم بشكل خطي، لاترى أمامك أي منحنى أو منحدر، وكأنها الرغبة في إزالة كل مايخرج عن المنطق الخطي أو أي غموض في الرؤية، وسواء بالنسبة للطرقات أو الساحات في هذا النوع من المعمار، فقد سعت التصاميم الشيوعية الأولى للساحات والطرقات لإشعار الفرد بأنه نقطة من بحر وأن خطوته لاتمثل سوى خطوة من ألف ميل، وهي ذات الفلسفة التي تقزم دور الفرد وتشعره بإضمحلال مكانته مقارنة بالجماعة، ويشعر الفرد الواقف في مثل هذه المساحات الفسيحة بهالة من الفراغ حوله، فراغ لا تملؤه إلا الجماعة، لذلك تبدو هذه الساحات في أبهى زينتها أثناء الإحتفالات والإستعراضات الجماعية، ومؤكد أنه لو تم عرض أشهر لوحات العالم في ساحة تيان آنمان مثلا، لن تكون أبدا أجمل من لوحة الإستعراض الفني الجماعي التي يرسمها الآلاف بأجسادهم في إحتفالات العيد الوطني، ففلسفة التصميم هنا تركز على الإنسجام بين الفضاءات الفسيحة والجماهير.

يعكس هذا الطراز المعماري حقبة بالغة الأهمية من التاريخ الصيني الحديث، مابين 1949 و1979، حقبة إعادة تنظيم المجتمع الصيني على أساس طبقة واحدة- البروليتاريا، وإزالة جميع الفوارق المادية والمعنوية بين الأغنياء والفقراء والرجال والنساء، مرحلة ذوبان الفرد في المجموعة، وإستبدال الفضاء العام للخاص، مرحلة قوة الجماهير والتوزيع العادل للثروة والتضحية بمتعة الحياة من أجل نجاعة الإنتاج، مرحلة إنتصار الإيديولوجيا الإشتراكية والتعلم من النموذج السوفيتي. وهذه كلها أبعاد يمكنها أن تترجم طبيعة التصاميم المعمارية الرائجة في تلك الحقبة، والتي لاتزال بعض اطلالها موجودة في مدن شمال الصين.

بعيدا عن هذه المنطقة بـمسافة ساعة بالسيارة، توجد منطقة معمارية سياحية بوسط المدينة إسمها"ووداداو" ( الطرق الرئيسية الخمس)،تعود لحقبة جمهورية الصين(1912-1949). هنا تجد كل شيء مختلفا تماما عما ذكر سابقا. تضم المنطقة عشرات من القصور والفيلات الفاخرة التي شيدت على الطراز الأوروبي، منها مابني على الطراز البريطاني، وهناك مابني على الطراز الإيطالي أو الفرنسي أو الألماني، وهناك منها ما جمع بين الطرازين الأوروبي والصيني، يختلف كل طراز عن الآخر، وتتميز بجمال تصاميمها ودقة إختيار المواد سواء في البناء أوالتزويق أو الزخرفة، وبشرفاتها المطلة على الشوارع وحدائقها الخضراء، وهناك بعض القصور التي أُستقدم من أجلها معماريون من أوروبا لتصميمها، ببساطة إن هذه القصور والفيلات الفاخرة تعبر عن"فن الحياة" لدى البورجوازية الأوروبية، فهذه الأخيرة لم تكن مجرد طبقة إجتماعية فحسب، بل كانت نسقا فكريا وإجتماعيا متكاملا، جمع بين الثروة والذوق الفني وحب الحياة، كانت تيانجين مثل عدة مدن صينية أخرى كتشينغداو ووهان وشنغهاي، تحتوي على مستوطنات غربية، يسكنها الاوروبيون خاصة ويخرجون عن سلطة الدولة الصينية. وقد سكن هذه القصور والفيلات الفاخرة الغربيون وكبار الأثرياء الصينيين الذين إزدهرت تجارتهم بعد قدوم الرأسمالية الغربية، أو كما يحلو للبعض تسميتهم بـ"الكومبرادورات"، هذا بالإضافة إلى بعض المسؤولين وأمراء الحرب.

حينما تتجول في منطقة "ووداداو"، تجد في شوارعا العديد من المقاهي المصممة على الطريقة الأوروبية، والمطاعم التي تقدم الأطباق الغربية، وهي محاولة لمحاكاة الحياة في هذه المنطقة زمن جمهورية الصين، فقد مارس الأوروبيون في ذلك الوقت تأثيرا كبيرا على البورجوازية الصينية في اللباس ونمط الحياة والفن والموسيقى، وتأثرت النخب السياسية والثقافية في جمهورية الصين بالعديد من الأفكار والمبادئ الأوروبية.

غير أن هذا الترف والثراء والفن كان يخفي وراءه صورة مأساوية للمجتمع والدولة في الصين، فبينما كان المستوطنون الغربيون والأعيان الصينيون يعيشون هذا الثراء الفاحش، كانت قرابة 90% من الشعب الصيني تعيش حياة بائسة في الأرياف والمدن، فقد ساعدت سياسة "الباب المفتوح" التي فرضت على الصين في تسهيل نهب الرأسمالية الغربية للصين وتكديس الثروة بأيدي الغربيين ومن إرتبطت تجارتهم بهم من الصينيين. سياسيا، كانت الصين تعيش أشبه مايكون بالفوضى الخلاقة، حيث كانت حكومة جمهورية الصين تسيطر على جزء، وأمراء الحرب على جزء واليابان على جزء آخر، وكانت حكومة جمهورية الصين تراوح بين العجز وفقدان الإرادة تجاه مقاومة النهب الغربي وعربدة أمراء الحرب والإستعمار الياباني.

لكن من إيجابيات اللانظام أنه أتاح حرية كبيرة للأفكار، حيث إنتعشت الحركات الشبابية الوطنية والأفكار الليبرالية واليسارية، وتعد حركة 4 مايو 1919 نقلة نوعية في تاريخ الصين الحديث، فقد تمخض عن هذه الحركة الشبابية في مابعد ولادة الحزب الشيوعي الصيني، والذي سيبني كفاحه على إخفاقات حكومة جمهورية الصين: مقاومة الإحتلال الياباني، توحيد الصين والقضاء على النهب الغربي والإنتصار للطبقة العاملة والفقيرة. ومن ثم برز الشيوعيون الصينيون كأطروحة نقيضة تماما للحزب الوطني: إشتراكية\رأسمالية، شيوعية\ ليبرالية، بروليتاريا\برجوازية، النموذج السوفيتي\النموذج الغربي. وعلينا أن نتصور شراسة صراع طرفين يبدأ التناقض بينهما من العمق الإيديولوجي وينتهي على واجهة الطراز المعماري، في سبيل إمتلاك اليد العليا في الصين.

بعيدا عن منطقة "ووداداو" بمسافة 20 دقيقة بالسيارة، يوجد معْلم ثقافي آخر، هو الأهم في مدينة تيانجين—"شارع الثقافة القديمة"، وهو سوق شعبية قديمة بنيت في عهد أسرة تشينغ المنشورية حول" قصر ملكة السماء" (تيانخو قونغTianHou Gong). حينما تصل هنا عليك أن تطوي كتاب التاريخ الصيني الحديث، وتنسى كل ما قيل سابقا في هذا المقال، فلا صوت يعلو هنا فوق صوت الثقافة التقليدية الصينية والمعمار الصيني القديم، بنيت المباني بأسقف قرميدية سوداء وجدران قرمزية، كما يحضر اللون الأخضر والأزرق والأبيض في الزينة والزخارف، حاولت حكومة تيانجين إعادة إنتاج الحياة التجارية والثقافية في هذه السوق الشعبية القديمة، حيث تقام هنا عروض الأوبرا القديمة وعروض كونغ فو الشاولين، وفي الباب الجنوبي للسوق شاهدت مُهرّجان يرتديان ملابس لشخصيتان أسطوريتان (شخصية القرد)في الرواية الصينية الشهيرة "مذكرات الرحلة إلى الغرب"، وحتى لافتات المحلات التجارية كتبت بالكاليغرافيا القديمة وفصّلت بأشكال قديمة وعلقت عموديا، تبيع المحلات منتجات الحرف الصينية القديمة، من يشم وفخار وحرير وسلال سعفية وآلات موسيقية وأواني نحاسية و أحجار كريمة وأمتعة الثقافة البوذية وغيرها، كما تجد باعة الحلويات والمأكولات الصينية القديمة على جانبي الأزقة الضيقة.

هنا تجد الصين العريقة، الصين الأصلية، الصين ماقبل التأثير ولادة الرأسمالية والإشتراكية، يدهشك تنوع وثراء الحرف، وكثرة السلع التي كانت تنتجها الصين القديمة، فقد كانت هذه السلع لقرون قبلة للتجار الأجانب الذين نقلوها عبر طريق الحرير لمختلف أنحاء العالم. وأنت تتأمل هذه المنتجات الحرفية القديمة المصنوعة إما من الخشب أو الفخار أو القماش أو الصخور وغيرها من المواد البدائية، يخطر ببالك شيء آخر، يخطر ببالك عدم صمود يد الحرفي الصيني مضرب المثل في العالم القديم أمام قوة المكنة الغربية، كيف دهس صلب وحديد الثورة الصناعية أدوات الخشب والفخار الصينية القديمة، عدم صمود الكونغ فو الصيني أمام البندقية الغربية، وعدم صمود الأسطورة الصينية القديمة والتقاليد الكونفوشيوسية أمامالحداثة والعلمنة الغربية. ربما هذا هو مادفع المستشرق الفرنسي، آلان بايرفيتلشرح هذه الظاهرة في كتاب أسماه" الإمبراطورية الجامدة: صدام عالمين".

لقد ترتب عن تقهقر الحضارة الصينية القديمةأمام صعود الرأسمالية الغربيةعقودا من النهب والإستعمار الغربي والياباني، وتراجعا للصين على مختلف الأصعدة، حتى دقت ساعة الصفر مع ثورة تشينغهاي (عام 1911) التي أنهت تاريخ النظام الإمبراطوري في الصين، وفتحت صفحة جديدة تماما من التاريخ الصيني تحدثنا عن فصولها آنفا. هذا هو تداخل الأزمنة الذي يمكن أن تعيشه وأنت تتنقل بين معالم مدينة مثل تيانجين، أماكن تبدو في ظاهرها مقاصد سياحية، لكنها مليئة بالذاكرة والخبايا والرمزية والقصص.

ختمت رحلتي العابرة للزمن بشارع الثقافة القديمة وعدت لأعيش في حاضر المدينة، هذه الأماكن الثلاثة التي زرتها ربما هي لاتمثل سوى 1 % من مساحة المدينة، المدينة التي غزتها العمارات والأبراج الشاهقة، بأطرزتها الحديثة ومابعد الحديثة، المدينة المملؤة بمحلات التسوق الكبرى، إحدى الأمارات الرئيسية للمجتمع الإستهلاكي. يأتي الصينيون إلى هذه الأماكن السياحية غير عابئين بالذاكرة، سواء حزينة أم سعيدة، يأتون للفسحة والإستمتاع لتخفيف ضغوط العمل والحياة، نلمس لدى الصينيين تصالح مع الماضي وتحرر من عقد وعبء التاريخ، تجد فيهم ماهو قديم متجذر وتجد أيضا الأثر العميق للثقافة الغربية. 


【1】【2】【3】【4】【5】【6】【7】【8】【9】【10】【11】【12】【13】【14】【15】【16】

صور ساخنة

أخبار ساخنة

روابط ذات العلاقة

arabic.people.cn@facebook arabic.people.cn@twitter
×