بقلم: عباس جواد كديمي
الملاحظ خلال الأعوام المنصرمة، ولاسيما عام 2016 الذي أوشك على الانتهاء، أن دور الصين، حزبا وحكومة، يتزايد على الساحة الدولية، وتحظى أفكارها ووجهات نظرها بالمزيد من الاعتراف الدولي. أبرز ما يوضح هذه الحقيقة هو الاستضافة الناجحة للصين لقمة عالمية مهمة هي قمة مجموعة الـ20 بمدينة هانغتشو الصينية في سبتمبر الماضي، وتجسيد حكمة الصين ووجهات نظرها حول الحوكمة العالمية في ظل التحديات المتزايدة التي يواجهها العالم حاليا، اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا وأمنيا. وقد حضرت الصين، ممثلة برئيسها شي جين بينغ، قمة بريكس(البرازيل وروسيا والصين وجنوب أفريقيا والهند) في مدينة قوا الهندية في أكتوبر 2016، وقد طرحت الصين، وتحديدا الحزب الشيوعي الصيني الحاكم، وجهات نظر حظيت بموافقة وتقدير، أعضاء بريكس، وكذلك حظيت بإعجاب الكثير من دول العالم والمنظمات الأممية والعالمية بمختلف أنواعها. من المقترحات الرئيسية التي طرحتها الصين، حزبا وحكومة، للعالم، كانت استراتيجيات التنمية والحوكمة العالمية الرشيدة والتوجهات السلمية لتسوية القضايا العالمية، وتعزيز رابطة المصالح المشتركة، ونبذ الخلافات، ودفع تكافؤ الفرص بين الجميع. إن حكمة الصين ووجهات نظرها، يتم طرحها عبر مناسبات مختلفة، منها اللقاءات الدولية، ومن بينها ما ذكرته أعلاه، وهناك أيضا مؤتمرات تستضيفها الصين/ الحزب الشيوعي الصين، للاحتفال بمناسبات ذات أهمية عالمية، ومنها مؤتمر تشاوري تحت عنوان (الحزب الشيوعي الصيني يحاور العالم)، عقد بمدينة تشونغشينغ بمنتصف أكتوبر الماضي، وحضره مندوبون من 70 حزبا سياسيا بالعالم، وخبراء من نحو 50 دولة ومنطقة، معنيون بالسياسة والاقتصاد والمجتمع والبيئة، حيث حرص الحزب الشيوعي الصيني على محاورة العالم، وطرح وجهات نظره في مجالات تتعلق باتجاهات الاقتصاد العالمي الحالية، والحوكمة الاقتصادية، واستراتيجيات التنمية، وضرورة أن يكون للدول النامية، والصين منها، فرصة أكبر وصوت مسموع في تقرير السياسات الدولية التي تهم الجميع.
وهناك منتدى عقد في بكين خلال الفترة من 4-5 ديسمبر 2016، بمناسبة الذكرى الثلاثين لإعلان الأمم المتحدة حول الحق في التنمية، وقد حرصت الصين/الحزب الشيوعي الصيني، خلاله على تأكيد التزامها مع العالم على العمل من أجل جعل حق التنمية فرصة متساوية لكل البشر، ليتمتعوا به فعليا، ولا يبقى مجرد إعلان. الرئيس الصيني شي جين بينغ، وجه رسالة تهنئة للمنتدى، أكد فيها عزم الصين على مواصلة دورها ومسئوليتها لدعم التنمية في داخلها وفي العالم، وخاصة العالم النامي. وأشار إلى مساهمات الصين لدفع التنمية فيها وفي العالم من خلال جهودها لتحقيق مجتمع رغيد الحياة لكل الصينيين، وتحقيق حلم الصين بالنهضة العظيمة للأمة الصينية، مؤكدا أن مثل هذه الأهداف الكبيرة لن تتحقق بمعزل عن انفتاح وتعاون وتكامل الصين مع العالم، وأن مثل هذه المشاريع الكبرى، لن تحقق الفرص للصين وحدها، بل للعالم أجمع، لاسيما مبادرة "الحزام الاقتصادي لطريق الحرير، وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين "الحزام والطريق"، وعوامل دعمها المتمثلة برعاية الصين لتأسيس وتفعيل البنك الآسيوي للاستثمار بالبنية التحتية، وصندوق طريق الحرير، ومبادرات ومشاريع استثمارية تعاونية كثيرة أخرى. لقد شاركت في هذا المنتدى، وأتيحت لي فرصة لتقديم كلمة فيه، والاستماع لكلمات المشاركين الآخرين من مختلف دول العالم، حيث ركز الكثير من المتحدثين على الدور الكبير الذي تقوم به الصين حاليا في مختلف المحافل الدولية، وهو ناجم بكل تأكيد، عن تنامي قوتها الشاملة. وكان من الطبيعي أن استغل الفرصة لأتحدث عن حق بلدي العراق بالتنمية، وكيف أن التدخل الخارجي والغزو الأمريكي قد سلب الشعب العراقي حقه بالتنمية، وهو حق خالد مقدس لكل البشر. كانت الكلمة باللغة الإنجليزية، وهنا أعبر عن شكري لموقع صحيفة الشعب الصيني باللغة العربية، لنشره وتشاطره مع القراء العرب المحترمين، وإليكم أبرز نقاطه:
التدخل الأجنبي يعيق الحق في التنمية: العراق مثالا
أولا، ينبغي الاعتراف بما يملكه العراق من إمكانيات تؤهله للسير على طريق التنمية التي يطمح إليها مع بقية دول العالم. فالعراق يتمتع بتراث حضاري غني وقدم مساهمات كبيرة للحضارة البشرية. إنه يتمتع بموارد طبيعية وبشرية كبيرة، وموقع جيوبوليتيكي هام، وهذا ما يوفر منصة هامة لإلهام وإطلاق تنمية إبداعية تسهم في توسيع البناء وفرص العمل والحياة المثمرة الكريمة. ولكن حقيقة أن العراق قد ظل على مدار العقدين الماضيين، أي ثلثي عمر إعلان الأمم المتحدة حول الحق في التنمية، والذي صدر عام 1986، تمثل نقطة هامة لا بد من الوقوف عندها وبحثها بإمعان، إذا كنا حقا نهدف إلى تطبيق فعلي لإعلان حق التنمية لكل البشر. في عام 1986، حيث تبنت الأمم المتحدة هذا الإعلان، كان الشعب العراقي محاصرا بظروف حرب طاحنة، وبعدها عانى من حكم سيئ بغيض، تسبب في مشاكل نجم عنها حصار اقتصادي وعقوبات أممية قاسية جدا على الناس، الذين لم يكن لهم أي ذنب في سبب فرضها. ثم ساءت الأمور أكثر بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، وما سببه من تدمير لكل مرافق الحياة، لأناس كان الكثير منهم غير عارف بمثل هذا الإعلان الأممي عن حق البشر بالتنمية. خلال العقدين الماضيين، ظل العراق منطقة تتكالب فيها قوى الشر المتمثلة بدعاة الحروب والدمار الذي شمل كافة أوجه الحياة، وهو ما يعني الإعاقة التامة لأي فرصة لدفع التنمية وتقدمها.
إن عقلية القمع والحرب، وبعدها التدخل والغزو الأجنبي، قد أدت إلى مآس إنسانية بالعراق، نجم عنها فشل تام لعملية التنمية، ما يعني حرمان العراقيين من حقهم في التنمية والحياة الكريمة. التدخل والغزو الأجنبي قد حرم العراقيين أيضا من إدارة مستقرة لبلادهم، كان بإمكانها لو وُجدت، أن تسهم بتوجيه الموارد الطبيعية والبشرية، باتجاه عملية تنموية واضحة المعالم والثمرات.
مثل هذه التدخلات والغزو الأجنبي قد أوجدت حالة حرجة جدا بالعراق تمثلت في ضرب الاقتصاد، وتمزيق النسيج الاجتماعي، وخيبة الأمل وتضاؤله، وظهور حالة شاذة من الخلاف الطائفي التي قادت إلى الاحتقان والتعصب ثم إلى التطرف والإرهاب الذي بات خطرا يهدد العالم أجمع.
عواقب التدخل والغزو الأجنبي ألحقت الضرر بكل العراق والعراقيين، وبكافة مجالات حياتهم، ولنأخذ البيئة مثلا، فهي متضررة جدا بآثار الحرب والدمار والأسلحة والقذائف، والتربة والهواء ملوثان ببقايا اليورانيوم المنضب من الأسلحة الأمريكية، والجفاف والتصحر يعصف بالبلاد، الأمر الذي يؤثر كثيرا على الأراضي الزراعية ومحاصيلها، وعلى حياة وصحة وغذاء الناس. ومن المجالات الأخرى الأكثر تضررا هو قطاع التعليم بالعراق. وبما أنه جوهر وأساس التنمية، فلا تنمية حقيقية بدون تعليم جيد. في الحقيقة، إن أحوال التنمية وواقع التعليم بالعراق حرجة حاليا. هناك منظمات أممية مثل اليونيسكو واليونيسيف، قد دقت أجراس الخطر أكثر من مرة، إزاء الواقع التعليمي بالعراق.
العراق يخوض الآن معارك على جبهات عديدة: عسكرية واقتصادية واجتماعية وثقافية، ولذلك، ينبغي على المجتمع الدولي، العمل أكثر على دعم العراق، من أجل تحقيق النصر بهذه المعارك، بما يساعد على تمتع العراقيين، وشعوب المنطقة والعالم، بحق التنمية فعلا. إن التنمية وفرص العمل هما الأساس الصلب الذي يمكن العمل من خلاله على حماية حقوق الإنسان كلها، وجعل المجتمعات أكثر أمنا وسلاما واستقراراونموا، وإزالة أية تربة أو إمكانية لتزايد خيبات الأمل، ونمو التطرف والإرهاب. العراقيون، مثل كل شعوب الأرض، يتطلعون ويطمحون للسلام والاستقرار والتنمية والحياة الكريمة. ليس من العدل ولا الإنصاف، ترك العراقيين وحدهم يكافحون ويواجهون التحديات الجسيمة، في ظل ظروف فرضت عليهم بسبب التدخلات والغزو من قوى خارجية مهيمنة.
في ظل هذه الظروف والتحديات، هل يمكن وضع إعلان الحق في التنمية موضع التنفيذ الفعلي للعراقيين؟ الجواب بوضوح هو: لا. ظروف الحروب والحصار وعواقب الغزو، قد سلبت العراقيين حقهم في التنمية، وجعلتهم يتخلفون حاليا عن ركب التنمية بالعالم، وهي ظروف وحقائق تستدعي بشكل عاجل دعم العراقيين للقضاء على شر الإرهاب. عندها، سيكون بإمكان العراق اتخاذ خطوات ملموسة على طريق التنمية المنشودة، سوية مع العالم، وتحمل مسئولياته ضمن المجتمع الدولي. إن العراقيين يقاتلون الإرهاب حاليا، نيابة عن المجتمع الدولي، وهذا ما يوجب دعمهم بكل الإمكانيات، للقضاء على هذا الشر الذي يهدد العالم أجمع، ثم فسح المجال أمامهم للعمل على تحقيق السلام والاستقرار المجتمعي، وسلوك طريق التنمية المستدامة.
ونحن نستذكر الذكرى الـ30 لإعلان الأمم المتحدة حول الحق في التنمية، أصبح من الضروري جدا العمل فعليا على مساعدة البشر بكل بقاع الأرض، على التمتع بحق التنمية والحياة الكريمة، بأسلوب خال من التدخلات والشروط السياسية والغزو وفرض نماذج غريبة على الناس، لا تلائم واقعهم الحقيقي وظروفهم. وهذا يعني الضرورة القصوى تعزيز دور الأمم المتحدة في الشئون الدولية، ومنح الفرص المتكافئة لكل الشعوب، لتعبر عن رأيها في القضايا التي تهم المجتمع البشري ومصيره المشترك، ودفع تعدد الأقطاب بالعالم، بما يحرم القوة الاستعمارية المنفردة بالقرار العالمي حاليا، من أية إمكانية لاتخاذ خطوة منفردة، للتدخل بشئون دول مستقلة أخرى، أو غزوها وتدميرها.