بكين 11 يناير 2019 / يبدو أن القاهرة، التي يعود تاريخها إلى 5 آلاف سنة، أصبحت مكانا ساحرا أيضا لمشاهدة التغيرات في شكل ومحتوى السياسة الخارجية الأمريكية تجاه منطقة الشرق الأوسط.
ففي يونيو عام 2009، وجد الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما فرصة في خطاب ألقاه في جامعة القاهرة لتأكيد صداقة ورغبة بلاده في تدعيم أوجه التقارب والتفاهم مع العالم الإسلامي، فيما وصف بأنه "بداية جديدة ". وفي نفس العام حصل على جائزة نوبل للسلام.
وبعد مضي 10 سنوات على خطاب أوباما، حرص وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في خطاب ألقاه أمس الخميس بالجامعة الأمريكية في العاصمة المصرية، فيما اعتبر" بداية جديدة" أيضا، على توضيح استراتيجية بلاده مرة أخرى، وخاصة بعد الانسحاب العسكري المفاجئ من سوريا الذي أثار حفيظة حلفاء وصدم مسؤولين كبارا بينهم وزير الدفاع الأمريكي الذي تقدم باستقالته.
انتقد بومبيو الرئيس السابق أوباما دون أن يذكر اسمه، وحاول جاهدا من خلال تقديم بلاده "كقوة خير" رسم خط واضح بين "العدو والصديق" كملمح رئيسي لسياسة بلاده الخارجية للمستقبل المنظور. ومن خلال "الموضوعات" التي تطرق إليها و"المصطلحات" التي انتقاها، برزت عدة مشاهد في خطاب بومبيو تبرز التغير الذي طرأ على سياسة الولايات المتحدة تجاه منطقة الشرق الأوسط خلال 10 سنوات.
فقد ركز بومبيو على مجموعة "أخطاء" لإدارة أوباما، مثل "التقليل من تماسك وخبث الحركة الإسلامية المتطرفة" و"الصمت عندما نهض شعب إيران في الثورة الخضراء" و" العنف لا ينبع من أيدلوجية"، لحشد الجهود في المنطقة باتجاه التركيز الجديد المتمثل في التصدي للنفوذ الإيراني و"الإرهاب الإسلامي".
وحرص بومبيو على استخدام "التطرف الإسلامي" بدلا لمصطلح "العنف المتطرف" الذي اختاره أوباما في خطابه بجامعة القاهرة قبل 10 سنوات.
--مسؤوليات جديدة على عاتق الحلفاء
وقال بومبيو في خطابه أمام الخبراء والمسؤولين والطلاب المصريين في الجامعة الأمريكية بالقاهرة "أمريكا قوة للخير في الشرق الأوسط"، وأضاف "نحن بحاجة إلى الاعتراف بهذه الحقيقة، لأنه إذا لم نفعل ذلك، فإننا نتخذ خيارات سيئة - الآن وفي المستقبل".
وفي الوقت الذي سحب فيه الرئيس دونالد ترامب جميع القوات الأمريكية من سوريا، أكد بومبيو عزم واشنطن على استمرار الضربات الجوية التي تستهدف تنظيم داعش، موضحا أن "الضربات الجوية ستستمر كلما ظهرت أهداف، ولن تتراجع أمريكا حتى ينتهي القتال الإرهابي، لكنه طلب من" كل دولة محبة للسلام في الشرق الأوسط أن تتحمل مسؤوليات جديدة لهزيمة التطرف الإسلامي".
وقال إن الولايات المتحدة كانت غائبة"، متهما الرئيس الأمريكي السابق بوضع "سوء فهم جوهري، وكانت نتائج هذه الأحكام الخاطئة قاتمة".
ورأى المحلل الصيني من جامعة بكين شيو ون أن بومبيو لم يخرج عن تصريحات ترامب السابقة، مشيرا إلى أن أوباما كان يوجه خطابه لعموم العالم الإسلامي، بيد أن بومبيو من الواضح أنه كان يستهدف من خلال حديثه القادة وصانعي القرار.
ورغم أن توقيت انسحاب القوات الأمريكية لم يتضح بعد، فإنه ينظر لحديث بومبيو كرد على أصوات اتهمت الولايات المتحدة بالتخلي عن المنطقة، مما يصب في مصلحة غريمتيها روسيا وإيران، حسبما قال شيو.
وقد أجلت إدارة ترامب مهلة الانسحاب من "الآن" إلى 120 يوما وبشكل "حذر". وأوضحت أن وجود القوات الأمريكية في العراق وعددهم أكثر من 5000 فرد وانتشار القوات الأمريكي عند حدود الأردن سيحافظ على نفوذها ضد المنافسين في المنطقة.
--حشد تحالف إقليمي ضد إيران
غير أن التغير الأبرز الذي تجلي في تصريحات بومبيو هو محاولة توجيه الوجود الأمريكي والجهود الإقليمية لمحاصرة النفوذ الإيراني، بعد نقض ترامب الاتفاق النووي الذي توصل إليه أوباما مع الجمهورية الإسلامية.
وخلال خطابه، أعرب بومبيو عن موقف شديد وواضح ضد إيران، داعيا إلى ضرورة التصدي للنظام الإيراني بدلا من إقامة العلاقات معه. وانتقد ما وصفه رغبة أوباما "في السلام بأي ثمن" والتي دفعته لإبرام الاتفاق النووي عام 2015 والذي وافقت إيران بموجبه على الحد من برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الاقتصادية.
وأكد بومبيو أن الحكومة الأمريكية تقف إلى جانب الشعب الإيراني في سعيه إلى "الحريات الجديدة" التي يستحقها. وقال إن الولايات المتحدة "ستستخدم الدبلوماسية" وتعمل مع الشركاء لكبح نفوذ إيران في منطقة الشرق الأوسط، مؤكدا بلهجة تحذيرية شديدة أن "الدول في المنطقة لن تنعم أبدا بالأمن وتحقق الاستقرار الاقتصادي أو أحلام شعوبها طالما واصل النظام الإيراني نهجه الحالي".
وتعهد بأن تعمل الولايات المتحدة مع شركائها في المنطقة وما وراءها لـ"وقف أنشطة إيران الخبيثة وعملائها في العراق ولبنان وسوريا واليمن والأماكن الأخرى".
ورأت شبكة ((باي جيا هاو)) الإخبارية الصينية في مقالة لها أن تصريحات بومبيو لم تخرج عن تصريحات سابقة أدلى بها ترامب، لكنها "ربما تفسر الآن جليا القرار الأمريكي بنقل القوات من سوريا إلى العراق، المجاورة من إيران. وهذا يشير أيضا إلى أن واشنطن لم تعد منزعجة من الدور المتزايد لروسيا".
وينظر مراقبون إلى تصريحات بومبيو كإعلان واضح لتكوين تحالف إقليمي جديد تقوده الولايات المتحدة ضد إيران لتجريدها من قواها أو حتى الإطاحة بالنظام.
غير أن قدرة واشنطن على تحقيق ذلك تبقى محل شكك، بحسب المراقبين.
وقال المحلل المصري المتخصص في الشؤون الإيرانية محمد محسن عبد النور إن" نفوذ النظام الإيراني لا يمكن تقويضه بسهولة في ظل وجود ميليشيات غير إيرانية موالية لها في عدد من الدول بالمنطقة".
وأضاف عبد النور لوكالة ((شينخوا)) أن" إيران لن تخسر أي مواجهة عسكرية في تلك الدول، مضيفا أن وجودها في بعض هذه الدول جاء بطلب من حكوماتها، لذلك فإن وجودها قانوني بموجب القانون الدولي".
ومن غير الواضح إذا ما كانت الدول العربية ستستجيب لفكرة انشاء تحالف إقليمي على غرار الناتو، الذي سبق أن دعا إليه ترامب في العام الماضي.
-- تهميش قضية الشرق الأوسط
ورغم أن خطاب بومبيو جاء خاليا من توضيح أمور عديدة مثل كيفية التصدي للتهديد الإيراني، وحتى الالتزام بموارد لتحقيق ذلك، فضلا عن موقف واشنطن من الأكراد في مواجهة تركيا التي تهدد بشن عملية عسكرية في شمال سوريا، تطرق بومبيو على مضض للقضية الفلسطينية، على النقيض من خطاب أوباما الذي أفرد مساحة واسعة للحديث عنها بجامعة القاهرة.
ودعم أوباما "خطة الدولتين" لتحقيق التعايش السلمي بين إسرائيل وفلسطين. وذكر في كلمته أن "العديد من الفلسطينيين يتعرضون للإهانة كل يوم، وهو أمر غير مقبول". وحث إسرائيل على وقف توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية ، بينما حث الفصائل على إنهاء العنف والاعتراف باتفاق السلام وحق إسرائيل في الوجود".
ولم يتطرق بومبيو إلى ما اصطلح تسميته إعلاميا بـ"صفقة القرن" ولم يدعو الى استئناف مفاوضات السلام المتوقفة.
وربما اتفق الاثنان في خطابيهما على التزام الولايات المتحدة الثابت بدعم إسرائيل عسكريا ضد التهديدات الإقليمية، وخاصة الإيرانية.
واعترفت إدارة ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت سفارتها من تل أبيت اليها العام الماضي وسط رفض إقليمي ودولي. وكرر بومبيو مجددا التزام بلاده بالاعتراف بالقدس غير أنه قال إن الولايات المتحدة ستعمل على تسوية الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ومواصلة الضغط لتحقيق سلام دائم وحقيقي بين إسرائيل والفلسطينيين.
ورأي المحللون أن تركيز بومبيو الكبير على إيران في خطابه كان الهدف منه خطف الضوء من قضية الشرق الأوسط، مشيرين إلى أن "هذا النهج يقلل من قيمة القضية الفلسطينية ولا يخدم صنع السلام في الشرق الأوسط".
وقال فادي حسيني، وهو باحث بمعهد دراسات الشرق الأوسط-كندا، إن الجانب الأمريكي والحكومة الإسرائيلية يبالغان دائما في التهديد الإيراني ويقللان من القضية الفلسطينية، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة تحاول في الوقت الحالي استخدام حلفائها في المنطقة لإلحاق الضرر بإيران، عدوتها اللدودة.
وأضاف الخبير أن خطاب بومبيو كان يهدف أيضا إلى تلميع صورة الولايات المتحدة وإظهارها كحارسة للديمقراطية في العالم، في وقت تعرضت صورتها لضرر كبير.