د.وليد عبدالله، باحث وكاتب
إن وضع الصين وأمريكا الدولي وتغيرات واقع العلاقات بين الجانبين في الوقت الحالي، هو نتاج سلوك نموذج كل جانب في تقييم نفسه والتعامل مع تناقضات العالم على امتداد عقود طويلة.
فإلى أي مدى أسهم سلوك النموذجين في ماتعيشه الصين وأمريكا اليوم من تغيّرات، ومالاختلافات الرئيسية التي ستبقي علاقات الصين بالعالم مختلفة عن النموذج الامريكي؟
مابعد الحرب الباردة: "حكمة الدرس" و "غرور الانتصار"
لقد عانت الصين الكثير قبل أن تهتدي إلى الطريق الصحيح الذي قادها إلى ازدهارها الحالي. فقد جرّبت الفقر والفشل والمجاعة والفوضى، قبل أن تتيقظ الحكمة الصينية من سباتها لإعادة الأمور إلى نصابها واختيار طريق الإصلاح. كانت نهاية الحرب الباردة، لحظة فارقة بالنسبة للصين، للنظر إلى الخلف واستخلاص الدروس، ورسم ملامح النموذج الصيني كما نراه اليوم. حيث تمكنت من الجمع بين ايجابيات الاشتراكية والليبرالية على حد السواء، وابتكار مفهوم جديد هو "اقتصاد السوق الاشتراكي". وفي الوقت الذي أبقت فيه على دور رئيسي للدولة، أطلقت العنان لحركة السوق والشركات الخاصة. أما في الجانب الأمريكي، فكانت نهاية الحرب الباردة تكريسا لفكرة التفوق الأمريكي، وأفضلية النموذج الأمريكي على بقية دول العالم، وقدرته على التغيير.
خلال العقود التي تلت نهاية الحرب الباردة، راجت في الصين مقولة "الخصوصية الصينية"، و التي انبنت أساسا على الجمع بين الهوية الصينية والانفتاح على العالم؛ بين دور الدولة والاقتصاد الحر؛ بين التعايش مابين النموذج الصيني وبقية الدول على أساس الاحترام المتبادل والمنفعة المشتركة. أما في أمريكا، فراجت مقولة "نهاية التاريخ" و"الأمركة". وراحت أمريكا تستخدم قوتها الناعمة والعسكرية في نشر نموجها، وفقا لمبدأ "من ليس معي فهو ضدي". وتصرفت على أنها فوق الجميع وفوق القانون الدولي، وبأن ماهو أمريكي فهو صحيح. حيث تحول النموذج الأمريكي إلى قوة قمع خارجي لكل من لايقبل التدخل أو التأثير الأمريكي. وغدت الحرية من المنظور الأمريكي، هيمنة وتحكّما بالنسبة لكثير من دول العالم، وتحوّل مفهومها للأمن القومي كابوسا لأمن واستقرار عدة دول.
أما اليوم فتروج مقولتان مختلفتان، إحداهما هي "النهوض الصيني"، و الاخرى هي"التراجع الأمريكي". وأسفل هاتين المقولتين، يتصرّف النموذجين الصيني والأمريكي بسلوكين مختلفين، فبينما تتجه الصين نحو الترابط العالمي، تتجه أمريكا نحو الإنعزالية. وبينما ترفع الصين شعارات حرية التجارة والعولمة وحرية حركة الاستثمار ورؤوس الأموال، ترفع أمريكا الحواجز الجمركية وتشن الحروب التجارية، وتعارض العولمة وتستخدم سلطة الدولة في تقييد صفقات الشركات ووجهاتها الاستثمارية، وتتراجع عن مبدأ المنافسة النزيهة (في مايخص الشركات الصينية على الأقل). حيث يبدو النموذج الأمريكي الذي إنبنى على مبدأ "دعه يعمل"، وكونية القيم الأمريكية، وكأنه آخذ في مناقضة نفسه ومراجعة مبادئه. بينما نجد بأن النموذج الصيني الذي إنبنى على خصوصية محلّية غير قابلة للتعميم، قد أصبح أكثر إنفتاحا وترابطا مع العالم.
في الحقيقة، إن الفرق بين سلوك النموذج الأمريكي والنموذج الصيني هو الفرق بين من حاول أن يشرب البحر ومن قام بركوبه. لقد غرقت أمريكا رغم قوتها العظمى في تناقضات العالم، وما انسحاباتها العسكرية، وتقليل التزماتها الدولية وتراجعها عن العولمة واتجاهها نحو الانعزالية في الوقت الحالي، إلا علامة على محاولة هذا العملاق انتشال نفسه من قعر بحر ظن أن بإمكانه شرْبه، فوجده يلتهمه. أما النموذج الصيني فقد كان سباحا ماهرا، باستطاعته أن يتحرّك بمرونة وانسيابية في عالم مليء بالتناقضات، ويطفو دائما على السطح دون أن يغرق.
وبينما تخرج أمريكا نفسها اليوم من متاهة عالمية وضعت نفسها فيها، فإنها لم تهتد بعد إلى ركوب البحر. بل تبادر إلى ايقاف القوارب المتقدّمة، وهذه هي الصورة المجازية لسياسات أمريكا تجاه الصين الآن. لكن أمريكا تنسى أن هذه القوارب تتقدّم بدفع من الرياح والأمواج وليس من تلقاء نفسها فحسب. وصحيح أن أمريكا لاتزال الأقوى، لكنّها فقدت موقع المبادرة، وتحوّلت سياساتها إلى مجرّد ردود أفعال على نهوض الصين. وماكان يقوله المخطّطون الأمريكيون إبان الحرب الباردة، "يكفي النموذج الأمريكي أن يبرهن على أنه الأفضل لينتصر"، بات يردّده القادة الصينيون اليوم في مواجهة الحرب التجارية: "الأهم هو أن نقوم نحن بأمورنا على أفضل وجه!".
لماذا لن تكون الصين "أمريكا الجديدة"؟
مع نهوض الصين وبروز مقولة "تراجع أمريكا"، يطرح البعض تساؤلات عمّا إذا كان العالم سيغرق في هيمنة جديدة مصدرها الصين. لذلك فإن فهم الاختلافات بين النموذجين يمكن أن يقدّم لنا اجابات عن هذا التساؤل.
أولا، "الخصوصية" و"الاستثناء"، الشبه والاختلاف: يعبر مفهومي الخصوصية الصينية والاستثناء الأمريكي عن فكرة متشابهة، هي الاختلاف عن الآخر وفرادة النموذج. لكنّهما يحتويان على معاني متناقضة. فالاستنثاء الأمريكي، ينطلق من موقع استعلائي تجاه المجتمعات والثقافات الأخرى. يرى بأن التاريخ الأمريكي قد تطوّر من خلال صيرورة استثنائية، ولم يشهد على سبيل المثال ظواهر مثل الاقطاع أو الاشتراكية أو النازية، ويعتبر أمريكا أمل البشر الأخير في الحرية. ومن ثم فإن عليها رسالة الدفاع عن الحرية ونشرها في العالم. أما الخصوصية الصينية، فتعني بأن النموذج الصيني يأخذ خصائصه من الثقافة والتاريخ الصيني وعادات وتقاليد المجتمع وأوضاعه المحلية. وأن النموذج الأمريكي على سبيل المثال، يمكن أن يكون ناجحا في أمريكا، لكنه غير مناسب للصين. ولذلك، فبينما يعدّ النموذج الأمريكي نفسه الأفضل والأنسب للبشر على اختلاف ثقافاتهم. يرى الصينيون بأن العالم يمكن أن يحتوي على العديد من النماذج الناجحة. وأن فكرة تعميم نموذج واحد على العالم يمكن أن تثير الصراعات والحروب. ولذلك يعتقد الصينيون أن الاهتمام يجب أن يتركز على سبل تحقيق التعايش بين النماذج المختلفة، وليس نشر نموذج واحد. فبينما هدف النموذج الأمريكي هو الإنتشار والتوسع، فإن هدف النموذج الصيني هو صدّ النماذج الأجنبية والمحافظة على الخصوصية المحلية.
ثانيا، شعور الأمن القومي: يوجد اختلاف كبير على مستوى الحس الأمني بالنسبة لأمريكا والصين، يصل إلى حد التناقض. فقد تأسس النموذج الأمريكي على فكرة "الأمان الداخلي" وبأن أمريكا هي "مدينة فوق هضبة". أي أن الطبيعة قد حصّنت أمريكا من الأعداء بعزلها عبر محيطين، واحاطتها بدول ضعيفة. مما يمنح الأمريكيين شعور بالأمن على أرواحهم وثرواتهم. ولذلك فإن جهد أمريكا العسكري ظل دائما متركزا خارج أرضها، عبر توسيع نفوذها وحماية موقعها المهيمن عالميا. أما الشعور الأمني الصيني فقد تأسس على "الخطر الخارجي". فالصين محاطة بالعديد من الدول القوية، والعديد من القواعد الأمريكية، كما تؤرقها مشاكل الانفصال الداخلي. وأما البحر فكان دائما بالنسبة للصينيين بوابة للغزاة، من حرب الافيون الى غزو حلف الجيوش الثمانية، إلى الاحتلال الياباني. وبعد تأسيس الصين الجديدة، ظلت الصين لعقود تتحمّل ضغوطا كبيرة بسبب اختيار طريق الاشتراكية، وتعيش على وقع الخوف من المؤامرة الداخلية للنظام القديم أو الغزو الخارجي. وحتى بعد سياسة الاصلاح والانفتاح ظلت الصين دائمة القلق من التدخل الخارجي وإثارة نزعات الانفصال لبعض الأقاليم. لذا فإن مفهوم الأمن لدى الصين يتمثّل أساسا في القدرة على صد العدوان الخارجي والحفاظ على وحدة الصين وحماية مواردها.
ثالثا، العلاقات مع العالم: إن المتأمل في التاريخ الصيني الحديث، يجد بأن علاقات الصين مع العالم تكون أفضل كلّما ازداد الشعور بالأمن والاستقرار داخليا. والنموذج الصيني لايسعى إلا تصدير نفسه، كما يعارض تصدير النماذج الأجنبية إليه. ويميل إلى الانفتاح على مختلف دول العالم على أساس المصلحة والتعاون، دون اعتبار للعوامل الايديولوجية أوالنظامية ودون اعتماد التحالفات العسكرية أو الايديولوجية. لذلك فإن النموذج الصيني يعمل على شكل (ثابت + متغير)، أي أن الداخل يجب أن يكون ثابتا وصينيا خالصا، لكن الطرف المقابل يمكن أن يكون أيا كان، وفي كل الحالات يمكن أن يكون هناك تعاونا مثمرا وتحقيق للمصالح المشتركة. وخير دليل على ذلك، أن الصين اليوم تربطها علاقات تعاون قوية من الكوريتين، ومع الهند وباكستان، ومع السعودية وايران، إلخ. وهي عضو رئيسي في منظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة بريكس، وهما تكتلان من الدول التي لاتجمعها قواسم ثقافية أوآيديولوجية مشتركة. كما أن الرقعة الثقافية الواسعة التي تمتد عليها مبادرة الحزام والطريق، تعكس بأن هدف الصين هو زيادة المصالح الدولية وليس التوسع. لأن التوسع يقتضي التحالف والتحرك الجماعي وتصدير النموذج ونشر القواعد العسكرية.
في المقابل، فإن النموذج الأمريكي والغربي عامة، يتعامل مع العالم على صيغة (ثابت + ثابت)، حيث يضع من نفسه مرجعا للآخر، ويطمح إلى أن تكون الدول الأخرى فضاء لتمدد مبادءه ومصالحه. ولتحقيق ذلك يلجأ النموذج الغربي الى التحالفات والقواعد الموحدة على أساس المصالح والقيم والايديولوجيا المشتركة. بهدف توسيع مجال تأثير النموذج وخنق الأفكار والنماذج المخالفة، ومن ثم يتحول النموذج إلى هيّمنة، وتصبح الهيمنة آداة لتحقيق المصلحة.
يعبر النموذجين الصيني والأمريكي عن اختلاف في الأفكار والقيم وسبل تحقيق المصالح وطرق التعامل مع الدول الأخرى. ويعد النموذج الصيني اليوم، خلاصة مراجعات وأخذ بالأفضل، كما يقول دنغ "لايهم لون القط، المهم أن يصطاد الفئران". الأمري الذي يمنحه قدرا كبيرا من الواقعية والحيوية، والقدرة على توسيع مساحة التعاون الدولي إلى حدّها الأقصى. أما النموذج الأمريكي، فيميز نفسه بنقيضه، ويتحرّك في إطار التحالفات والقواعد المشتركة وفي ظل قيادة أمريكية للعالم. وهو مايحول النموذج الأمريكي إلى سلطة هيمنة وتحكّم في العالم. وفي عالمنا الحالي، الحافل بالتغيّرات وانقلاب موازين القوى، هل يمكن للنموذج الأمريكي أن يتعايش مع عالم متنوع، ويستمر دون فكرة القيادة ودون الرغبة في الهيمنة؟