غزة 9 فبراير 2025 (شينخوا) وسط أكوام من الأنقاض والرمال المتراكمة، سار الفلسطيني عماد الرملي بخطوات متثاقلة فوق ركام منزله المدمر في وادي غزة بعد عودته إلى المنطقة إثر انسحاب الجيش الإسرائيلي صباح اليوم (الأحد) من محور نتساريم الفاصل بين شمال قطاع غزة وجنوبه.
وعاد الرملي، الذي كان نازحا في خيمة مع عائلته في مواصي خانيونس جنوب قطاع غزة اليوم عبر طريق صلاح الدين، وهو الطريق الرئيسي الذي يربط بين شمال وجنوب القطاع، إلى مكان منزله في منطقة جحر الديك الواقعة ضمن وادي غزة.
وانسحب الجيش الإسرائيلي صباح اليوم من محور نتساريم وسط قطاع غزة، مما فتح الطريق بين جنوب وشمال القطاع لأول مرة منذ شهور.
ويمتد محور نتساريم من جنوب مدينة غزة إلى المحافظة الوسطى، وتقع شماله مناطق سكنية حيوية مثل المغراقة وجحر الديك ضمن وادي غزة. وكان للانسحاب الإسرائيلي منه تأثير كبير على حركة السكان والتنقل بين مناطق قطاع غزة .
وإثر الانسحاب الإسرائيلي، بدا المشهد أمام الرملي وكأنه جزء من كابوس طويل؛ مبانٍ مهدمة، وخراب ممتد بلا نهاية، شوارع مطموسة ومعالم اختفت تماما، ورائحة الموت تملأ المكان.
ووقف الرملي البالغ من العمر (45 عامًا)، وهو أب لسبعة أطفال، عاجزًا عن استيعاب ما حل بمنزله وبحيّه. وتساءل بصوت مخنوق قبل أن تنهمر دموعه "ما هذا الذي نراه؟ هل هو كابوس أم حقيقة؟ أين المنازل؟ أين الشوارع والأشجار؟ لماذا كل هذا الدمار؟".
وأضاف بغضب لوكالة أنباء ((شينخوا)) "إسرائيل لم تقاتل حماس فقط، بل قاتلتنا جميعًا. أرادت أن تقتل الأمل داخلنا، أن تجعلنا نيأس من الحياة".
ولم يكن الدمار هو الصدمة الوحيدة التي واجهها الرملي والعائدون إلى منازلهم، فقد تعثر بجسم مدفون جزئيًا في الرمال قبل أن ينحني بحذر ليكتشف بقايا عظام بشرية لشخص فر يوما من القصف بحثا عن ملجأ.
ارتجف جسده وهو يصرخ: "يوجد هنا شهيد! يوجد هنا رفات إنسان! يا الله، لم كل هذا الألم؟".
وعلى امتداد الطريق، وجد السكان أنفسهم وسط مشهد يفوق الاحتمال: جثث متناثرة، بعضها مكشوف، وأخرى ما زالت عالقة تحت الأنقاض. ورائحة متعفنة كانت دليلًا على أن الموت سبق العائدين إلى هنا
وقال الفلسطيني عبد السلام حمود، أحد سكان المنطقة، إنه جاء يبحث عن أخيه أحمد، الذي اختفى قبل عام، لكنه لم يجد سوى بقايا ملابسه.
وتابع بحزن "لا نعرف هل دفن وتحلل جسده في التراب؟ أم أن الكلاب الضالة أكلته؟ أم أن الدبابات الإسرائيلية سحقته؟ لا نعرف ما الذي جرى معه، ولكن هذه الملابس تدل على أنه قتل".
وقال شهود عيان إن القوات الإسرائيلية أضرمت النار في ما تبقى من عتادها قبل الانسحاب، وسط إطلاق نار كثيف في الهواء.
وجاء الانسحاب الإسرائيلي ضمن المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار الذي دخل حيز التنفيذ بوساطة قطرية ومصرية ودعم من الولايات المتحدة في 19 من يناير الماضي، ويتضمن إدخال مزيد من المساعدات الإنسانية وتخفيف القيود المفروضة على القطاع.
لكن بالنسبة لسكان وادي غزة، لم تكن هناك أي ملامح للهدنة. فالمكان لم يعد يصلح للعيش، والخدمات الأساسية منهارة بالكامل.
وفي ظل هذا الدمار، بدأت أزمة جديدة تتكشف.
وقال رئيس بلدية وادي غزة جبر أبو حجير، لـ((شينخوا)) "إن المنطقة تعيش الآن بلا كهرباء، ولا مياه نظيفة، ولا طرق صالحة للاستخدام. السكان يعتمدون على مصابيح الزيت والشموع للإنارة، بينما يتم جلب المياه من نقاط التوزيع".
وأضاف "أن البلدية عاجزة عن تقديم خدمات بسبب تدمير المبنى، وموظفونا يعملون من الشوارع".
وتابع أبو حجير أن آبار المياه ومحطات تحلية المياه تعطلت، والصرف الصحي دُمر، مما زاد من مخاطر انتشار الأمراض، محذرا من كارثة صحية مع تزايد عودة النازحين لمناطقهم في ظروف لا تصلح للحياة.
وتحولت الطرق الرئيسية إلى حفر ضخمة، والجسور الصغيرة التي كانت تربط الأحياء سُوّيت بالأرض.
وأجبرت ندرة السيارات ووسائل النقل بسبب نقص الوقود، السكان على المشي لمسافات طويلة للوصول إلى مناطقهم.
وأما المستشفيات، فلم تسلم من الدمار. مستشفى وادي غزة، الذي كان يخدم المنطقة أصبح كومة من الركام.
ووسط هذا الدمار، يبحث الأطفال عن مكان لاستئناف حياتهم.
وقالت الطفلة ذات الأعوام العشرة روان بعدما حملت حقيبتها المدرسية الممزقة، وسارت فوق الأنقاض "لقد انقطعنا عن التعليم 15 شهرا، اشتقت للمدرسة، لكن أين سأذهب؟ لقد مررنا بمدرستي وقد أصبحت خرابًا".
وتحولت معظم المدارس في غزة إلى ملاجئ للعائلات النازحة أو باتت مدمرة.
ويحاول السكان التكيف مع الكارثة، بعضهم بدأ في إصلاح ما تبقى من منازلهم بطرق بدائية، وآخرون يعتمدون على التضامن المجتمعي لتبادل الموارد القليلة المتاحة.
لكن جودة المغربي، الرجل الثمانيني الذي فقد منزله وعائلته، لم يعد يرى أفقًا واضحًا.
وقال المغربي "كنا نعيش تحت القصف، والآن نعيش وسط الأنقاض. الفرق الوحيد هو أن الطائرات لم تعد تقصف، لكن الدمار والجوع والبرد والمرض سيقتلنا ببطء".
ومنزل المغربي واحد من بين 2500 منزل دمرت بالكامل، وفقًا لرئيس بلدية وادي غزة، الذي أضاف إن الجيش الإسرائيلي "سوّى 2000 دونم زراعي أيضا بالأرض، محولًا المنطقة إلى منطقة منكوبة لا تصلح للحياة".
وأضاف: "أن الوضع كارثي بكل معنى الكلمة. الجثث المتحللة في كل مكان، الدمار هائل، والإمكانات معدومة، والناس تركوا ضحايا لليأس والحسرة".
وناشد أبو حجير المجتمع الدولي والمحلي بالإسراع في إعادة إعمار وادي غزة، لكنه يدرك أن ذلك لن يحدث بين ليلة وضحاها.