الخرطوم أول يونيو 2025 (شينخوا) داخل صندوق بلاستيكي صغير، يضع مؤيد كامل، ذو الـ13 عاما، أعواد السواك ومسابح ومناديل، ويجول بها داخل السوق المركزي الواقع جنوبي الخرطوم، وهو يبحث عما يسد به رمق أسرته الصغيرة، في مهمة شاقة تتجاوز عمره بسنوات.
يتسلل مؤيد بين السيارات التي تقف في ركن قصي بالسوق الذي بدأ رويدا رويدا في إستعادة نشاطه المعهود، ومن خلال نوافذ حافلة صغيرة كنت أستقلها، يعرض مؤيد على الركاب بضاعته، وهو ينادي بصوت بالكاد يُسمع بسبب ضجيج السوق وأصوات الباعة التي تمتزج مع أصوات مولدات الكهرباء التي أضحت الآن وسيلة رئيسية للحصول على التيار الكهربائي.
كانت الأتربة عالقة على وجه مؤيد ويديه وشعره، غبار خلفته على جسده وملابسه المهترئة المركبات العابرة من هنا وهناك، تجاذبت معه أطراف الحديث حينما اقترب من النافذة التي أجلس بجوارها، وسألته: هل تذهب إلى المدرسة؟، أجاب بصوت خافت "كنت من المتفوقين بالمدرسة، ولكني الآن أساعد عائلتي".
ويضيف "والدي مريض، ولدي أخوة صغار، كان لابد من أن أعمل، وإن تحسنت الأمور سأعود للمدرسة".
كانت شمس الظهيرة ترمي أشعتها الحارقة على جبين وعيني مؤيد، وحبات عرق صغيرة تتلألأ على جبينه، يمسحها بكم قميصه لتعود مجددا، وهو يحمل في يد صندوقه البلاستيكي، وفي الأخرى بضعة أوراق نقدية حصيلة ما باعه منذ الصباح.
ورغم ابتسامته الفاترة، فإن قسمات الطفل مؤيد تشير إلى مأساة ملايين أطفال هذا البلد، مأساة جيل سحقته الحرب بدون رحمة وحطمت آماله وأحلامه.
يصل مؤيد إلى السوق في وقت مبكر، ويعمل لأكثر من عشر ساعات، ليعود إلى منزله قرب مغيب الشمس، وإن كان محظوظا فإنه يتحصل على نحو خمسة آلاف جنيه سوداني، نحو دولارين تقريبا.
"هذا المبلغ بالكاد يكفي لتدبير وجبة فول للعائلة، ولكني أشعر بالفرح كوني أنا من يساعد الأسرة، أتمنى أن ينتهي هذا الكابوس وأن نعود لحياتنا الطبيعية"، قال مؤيد وهو يتنهد.
ويتأثر الأطفال في السودان على نحو بالغ بتداعيات الحرب التي تجاوزت العامين، وأصبحت حياة جيل من الأطفال وتعليمهم ومستقبلهم على المحك.
وفي مدرسة مؤقتة، أقامها ناشطون بحي الإنقاذ جنوبي العاصمة السودانية الخرطوم، تجلس الطفلة مرام (عشر سنوات) على الأرض وهي ترسم على كراسة طائر (الحمام)، وتقول بصوت ينبض بالأمل "لقد تعلمت أن الحمام يرمز للسلام، وأتمنى أن يعم السلام بلادنا وأن تعود الحياة إلى طبيعتها".
تدرس مرام ونحو 15 طفلا وطفلة في المدرسة المؤقتة، وهي وسيلة لإعادة الأطفال إلى أجواء الدراسة التي توقفت منذ اندلاع القتال في منتصف أبريل من العام 2023.
وبسبب الظروف الاقتصادية، وعدم توفر التمويل اللازم، فإن المدرسة المؤقتة تفتقر إلى وسائل الإجلاس وتعتمد طريقة بدائية لتعليم الأطفال، ولكن الطفلة مرام تبدو سعيدة بأنها عادت أخيرا إلى أجواء الدراسة، وتقول "لقد فقدت حقيبتي المدرسية وكتبي وأقلامي بسبب الحرب، ولكني سعيدة بالعودة للدراسة".
وتفتقد مرام صديقاتها وزميلاتها في مدرستها الأصلية والتي ما تزال مغلقة، وتقول "عدد كبير من زميلاتي بالمدرسة نزح إلى مناطق أخرى ويعيش في مخيمات للنازحين، لقد حرمتنا الحرب من أحلامنا في التعليم وشردتنا من بيوتنا".
وتقدر السلطات السودانية عدد الأطفال خارج المدرسة بنحو 17 مليون طفل.
وقال الأمين العام للمجلس القومي للطفولة عبد القادر عبد الله أبو في تصريح خاص لوكالة أنباء ((شينخوا)) "ملايين الأطفال الآن بلا تعليم، ملايين الأطفال بلا مأوى، وهم نازحون ولاجئون".
وأضاف أن "أكثر من 17 مليون طفل خارج المدرسة بصورة كلية بسبب الحرب وتأثيراتها".
ويقدر عدد الأطفال النازحين في السودان بنحو ثمانية ملايين طفل، إضافة إلى نحو 1.5 مليون طفل لاجئ، وفقا للأمين العام للمجلس القومي للطفولة.
ووفقا لتقارير سابقة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسيف) فإن السودان يواجه أكبر أزمة نزوح للأطفال في العالم، وأن مستقبل أكثر من 24 مليون طفل سوداني في خطر بسبب الكارثة الإنسانية الناتجة عن الحرب.
وفي مخيم للنازحين بمدينة بورتسودان، وهي العاصمة المؤقتة للبلاد الآن، كان الطفل كمال (11 عاما) يحاول العزف على آلة موسيقية أحضرتها فرقة غنائية في يوم ترفيهي لأطفال المخيم.
كانت علامات الحزن بادية على وجه كمال، وإنه حاول إخفاءها، وكانت حركة أصابعه على الآلة الموسيقية تعكس توترا بائنا وخوفا يستوطن عقل وتفكير الصغير.
وقال كمال "لا أشعر بالراحة في هذا المكان (المخيم)، كان لدينا منزل جميل في الخرطوم أتمنى أن نعود إليه".
ويعيش كمال مع والدته وأخوته بمخيم داخل مدرسة بحي السكة حديد وسط مدينة بورتسودان، ووالده متوفي منذ سنوات، ورغم بقاء العائلة لأكثر من عام داخل المخيم فإن كمال لم يعتد المكان بعد لأنه "غريب وموحش" كما وصفه.
وتفتقر غالبية مخيمات النازحين المقامة في مدن سودانية عدة للخدمات الأساسية، ولا توفر متطلبات رئيسية للأطفال، ويقول كمال "لا توجد ساحات للعب داخل المخيم، ولا تسمح والدتي لي بالذهاب إلى خارج المخيم، أشعر بالاختناق هنا".
وأضاف" أفتقد منزلنا وأصدقائي في الحي والمدرسة، تخبرني أمي يوميا أن الحرب ستتوقف قريبا، وسنعود إلى منزلنا"، وبدت كلمات كمال وكأنها تختصر أحلام ملايين السودانيين الذين ينتظرون العودة إلى منازلهم.
وترى الاختصاصية النفسية ابتسام الطيب أن الإقامة داخل مخيمات النازحين تسبب مشكلات خطيرة للأطفال.
وقالت لـ((شينخوا)) "إن نشأة الأطفال في مخيمات النزوح ينعكس على سلوكهم في المستقبل والحاضر، وعلى علاقاتهم الاجتماعية وطريقة تفكيرهم وتطورهم النفسي".
وأضافت "من المعلوم أن أي تأثير سلبي على الأطفال يؤثر على البنية المجتمعية، ونخشى أن يتأثر مستقبل هؤلاء الاطفال بالجهل والعنف والنزوح، وهذه ستكون ورثة ثقيلة للغاية".
ورأت ابتسام أن مخيمات النازحين ومراكز الإيواء غير ملائمة للأطفال، وتقول إن "المساحات ضيقة جدا، وتعيش ثلاثة أو أربعة أسر في كل غرفة أو فصل دراسي".
وتقول اليونيسيف "إنّ عامين من الحرب والنزوح حطّما حياة ملايين الأطفال في سائر أنحاء السودان".
وخلال ما يزيد على عامين من الحرب، تضاعف عدد الأطفال المحتاجين إلى مساعدات إنسانية، إذ ارتفع من 7.8 مليون في بداية 2023 إلى أكثر من 15 مليون طفل في العام 2025.
ويعاني ثلاثة ملايين طفل من سوء التغذية، كما تواجه جهود التطعيم تحديات هائلة، إذ انخفضت التغطية الوطنية بالتطعيمات من أكثر من 85 بالمائة قبل الحرب إلى 50 بالمائة في بعض الأماكن، وحتى أقل من ذلك في الأماكن المحاصرة بالقتال.