بقلم: د.تمارا برّو، باحثة لبنانية
يصادف هذا العام الذكرى الخمسين لاقامة العلاقات الصينية اللبنانية التي شهدت تطوراً كبيراً خلال السنوات الأخيرة، إذ تُعد الصين حالياً من أهم الشركاء التجاريين للبنان.
إن العلاقات الودية بين الصين ولبنان ليست وليدة اليوم ، بل تعود إلى قديم الزمان حيث كان طريق الحرير القديم يربط بين لبنان والصين منذ قرنين من الزمن. كما عرف الصينيون لبنان عن طريق الطبيب الأميركي اللبناني الأصل جورج حاتم الذي رافق مسيرة الزعيم الصيني ماو تسي تونغ كطبيب له، وحصل حاتم بعد تأسيس الصين الحديثة على الجنسية الصينية ليكون أول أجنبي يحصل عليها.
وإذا كانت العلاقات الدبلوماسية بين البلدين تعود إلى العام 1971، بعد أن استعادت الصين مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة، فإن العلاقات التجارية بينهما ترجع إلى العام 1955، عندما قام أول وفد صيني بزيارة لبنان ليتم بعدها إبرام أول اتفاق تجاري بين الصين ولبنان وإنشاء مكاتب تجارية صينية في العام 1956. ومنذ ذلك الوقت حققت العلاقات التجارية تطوراً كبيراً ازدادت في السنوات الأخيرة قبل أزمة فيروس كورونا المستجدّ.
وبعد اطلاق الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق" في العام 2013، تكثف التعاون الاقتصادي والتجاري والثقافي والتواصل الشعبي بين الصين ولبنان وحظي الأخير باهتمام العملاق الآسيوي بسبب دوره الكبير في مبادرة "الحزام والطريق" نظراً لموقعه الاستراتيجي المميز كونه يربط بين الشرق والغرب. فقد عبّر رئيس غرفة التجارة الدولية لطريق الحرير لوجيان تشونغ أن الصين مهتمة بجعل لبنان مركزاً للتجارة العربية ولعبور الصين من خلاله إلى الشرق الأوسط. ونظراً لأهمية مبادرة" الحزام والطريق" بالنسبة إلى لبنان والمنافع التي يمكن أن يستفيد منها انضم إليها في العام 2017 . ففي أثناء زيارة وزير الاقتصاد السابق رائد خوري إلى الصين قام بتوقيع مذكرة تفاهم بين حكومة جمهورية الصين الشعبية وحكومة الجمهورية اللبنانية حول "الترويج المشترك للتعاون في إطار الحزام الاقتصادي لطريق الحرير ومبادرة طريق الحرير البحرية للقرن الواحد والعشرين". وتنصّ المذكّرة على تعاون الجانبين في مجالات ذات اهتمام مشترك منها النقل واللوجستيات والبنى التحتية، الاستثمار والتجارة، الطاقة والطاقة المتجدّدة والتبادل الثقافي والتبادل بين الشعوب، الصحة والرياضة. كما انضم لبنان إلى البنك الآسيوي للاستثمار في العام 2018.
وخلال السنوات الأخيرة عندما كان لبنان يعاني اقتصادياً ، وفي ظل غياب الدعم الخارجي، وتعثر المباحثات مع صندوق النقد الدولي، عرضت الصين المساعدات على لبنان إذ اجتمع السفير الصيني السابق وانغ كه جيان مع رئيس الحكومة السابق حسان دياب لتقديم المساعدات للبنان في مجالات عدة منها الكهرباء والبنية التحتية وشبكة سكة الحديد والنفايات.
وبعد الانفجار الكارثي الذي دمّر مرفأ بيروت وخلّف أضراراً بشرية ومادية كبيرة سارعت الصين إلى مساعدة الشعب اللبناني فأرسلت المساعدات الغذائية والطبية، كما شاركت في مؤتمرات الدعم التي عقدت لمساعدة الشعب اللبناني والجيش، وأرسلت قوات حفظ السلام الصينية المتواجدة في لبنان فريقاً طبياً لمساعدة الضحايا اللبنايين، كما قامت فرقة الهندسة في الكتيبة الصينية بالمساعدة في أعمال إعادة إعمار ما خلفه الانفجار. وبالنسبة إلى مساهمة الصين في إعادة إعمار مرفأ بيروت فقد صرّح السفير الصيني في لبنان تشيان مينجيان أن الصين تحرص على تشجيع الشركات الصينية على تقديم عروض لمشاريع تهدف إلى إعادة بناء مرفأ بيروت عقب إعلان الحكومة اللبنانية عن خطتها في هذا الصدد. ومؤخراً غرّد وزير الأسغال العامة والنقل اللبناني الدكتور علي حمية على تويتر قائلاً "أن وفداً من شركة صينية تُعنى بقطاع المرافئ قادم إلى لبنان وسوف يقوم بزيارة الى مرفأ طرابلس، وذلك لدرس مشاريع توسعة وتطوير المرافئ اللبنانية. وهذا سيكون بداية التعاون مع الصين".
الصين هي أفضل خيار لإعادة إعمار مرفأ بيروت فالشركات الصينية تمتلك الخبرات الكبيرة في هذا المجال ولعل التزامها بناء وتطوير ميناء بيريوس اليوناني وتحويله إلى مرفأ أساسي لأوروبا خير دليل على ذلك، وأيضاً ميناء الحمدانية في الجزائر الذي من المتوقع أن يصبح من أكبر المرافئ في إفريقيا، كما أن الشركات الصينية تنجز مهماتها بسرعة وهذا ما يحتاج إليه لبنان لأن البقاء بلا مرفأ بيروت لفترة طويلة سيكون له أثر مدمّر على الاقتصاد اللبناني.
عندما كانت الصين تخوض حربها ضد فيروس كورونا المستجدّ، بعث رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون برسالة إلى الرئيس الصيني شي جين بينغ عبّر فيها عن تضامن لبنان مع الصين، وقدّر الرئيس عون الجهود الصينية في مكافحة فيروس كورونا. كما توافدت إلى السفارة الصينية في لبنان الوفود اللبنانية للتضامن مع الصين في مكافحتها للوباء.وعند تفشي فيروس كورونا المستجدّ في لبنان قدّمت الصين المساعدات الطبية له من نظارات واقية وكمامات وأجهزة قياس الحرارة ولقاحات إضافة إلى جهازين لقياس درجة الحرارة تم وضعهما في مطار بيروت الدولي، وجهاز تم وضعه عند نقطة المصنع الحدودية بين لبنان وسوريا، ونظامين تقنيين من شركة "هواوي"، الأول يساعد على الإتصال المرئي بين وزارة الصحة العامة ومستشفيات في لبنان وفي خارجه، والثاني عبارة عن توفير خدمة الذكاء الإصطناعي للمساعدة على تشخيص دقيق لـ COVID-19 .
وعلى الصعيد الثقافي فقد عمل الطرفان الصيني واللبناني على تعزيز التعاون بينهما في هذا الحقل من خلال زيادة التبادل الطلابي، والوفود من مسؤولين وإعلاميين وباحثين وطلاب جامعات، بالإضافة إلى عقد الندوات والمؤتمرات التي يشارك فيها أكاديميون من الصين ولبنان، وتوقيع المزيد من الاتفاقيات والبروتوكولات الثقافية. ويعمل الجانبان على إيجاد مراكز ثقافية في كل من البلدين تطبيقاً للاتفاق الذي وقع بينهما في العام 2020 . ومن ضمن المساعدات التي قدمتها الصين للبنان المساهمة في بناء وتجهيز المعهد الوطني للموسيقى.
ومنذ العام 2006 تشارك الصين في قوات الطوارئ الدولية من خلال الكتيبة الصينية في منطقة صور الجنوبية. وتتجسد وظائف الكتيبة الصينية بتقديم الخدمات الطبية لأبناء المنطقة وتنظيف المناطق الملوثة بالذخائر غير المنفجرة والقنابل العنقودية .
الصين مهتمة بتطوير العلاقات مع لبنان ففي الرسالة التي بعث بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى الرئيس اللبناني ميشال عون أكد الرئيس الصيني حرص بلاده على تطوير العلاقات مع لبنان لتعزيز الصداقة والتعاون المتبادل بما يخدم مصلحة البلدين والشعبين. بدوره شكر الرئيس عون الصين على الدعم الذي تقدمه بكين للبنان في المحافل الدولية، وعلى التضامن الذي أبدته حيال لبنان بعد الأزمة الأخيرة، والمساعدات التي قدمتها له ومشاركتها في المؤتمرين الدوليين لدعم الشعب اللبناني اللذين عقدا بعد انفجار مرفأ بيروت ، ومساهمة القوات الصينية العاملة في "اليونيفيل" بتنظيف نحو 60 الف متر مربع من الانقاض في المرفأ وثلاثة شوارع ومبنى وزارة الخارجية.
لن ينسى الشعب اللبناني الذي استخدم المساعدات الطبية الصينية عند تفشي وباء كورونا المستجدّ، ويحمل في دمه اللقاحات الصينية، أن الصين من أوائل الدول التي هبت لإغاثة لبنان وانتشاله من أزمته الاقتصادية ومساعدته في مواجهة فيروس كورونا المستجدّ، كما أنها بمساعداتها الطبية أنقذت حياة الكثير من اللبنانيين.
أمام لبنان اليوم، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يمرّ بها، فرصة لا تعوض للاستفادة من المساعدات الصينية وخبرات الشركات الصينية في مجال البنى التحتية والتكنولوجيا وبناء المرافئ وغيرها من المجالات التي أثبتت الصين أنها رائدة فيها، مما يساهم في تعزيز وترسيخ علاقات لبنان بالصين لتصل إلى علاقة استراتيجية شاملة.