بكين أول يناير 2019 /منذ 40 عاما بالتمام والكمال، أقامت بكين وواشنطن رسميا العلاقات الدبلوماسية، لتنتهي بذلك قرابة 3 عقود من العزلة والعداء وحتى المواجهة بين دولتين كبيرتين يزيد عدد سكانهما عن مليار نسمة، ويعاد صياغة مجرى التاريخ والسياسة الدولية.
ومثل "دبلوماسية البينغ بونغ" التي ميزت ذوبان الجليد في العلاقات الصينية-الأمريكية، كان إقامة العلاقات الدبلوماسية قرارا حكيما وحازما اتخذه زعيما الصين والولايات المتحدة آنذاك بشجاعة كبيرة ورؤية بعيدة الأفق. وفي العقود الـ4 الماضية، سار خلفاؤهما على خطاهما، وقادوا العلاقات الصينية-الأمريكية عبر كافة التعقيدات والصعوبات حفاظا على تطويرها بسلاسة وثبات بشكل عام.
وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ خلال اجتماعه الأول مع نظيره الأمريكي دونالد ترامب في منتجع مار إي لاغو في ولاية فلوريدا عام 2017،" هناك ألف سبب لجعل العلاقات بين الصين والولايات المتحدة تعمل، ولا يوجد سبب يدعو إلى قطعها". وفي الواقع، تعد العلاقات الصينية-الأمريكية أهم علاقات ثنائية في العالم بنظر العديد.
ولم يكن تقدم العلاقات الصينية-الأمريكية في السنوات الـ40 الماضية سوى شيئا مذهلا تجاوز توقعات معظم الناس. فقد نمت التجارة الثنائية من 2.5 مليار دولار أمريكي في أواخر السبعينيات إلى أكثر من 580 مليار دولار في 2017، وارتفع رصيد الاستثمار في الاتجاهين من صفر إلى أكثر من 230 مليار دولار.
لكن الأكثر إثارة للدهشة هو التغيرات السريعة في العلاقات الشعبية. فالصينيون الذين كان يعتبرون في السابق "العلاقات الخارجية"، ولاسيما مع الأسر أو الأصدقاء في الولايات المتحدة، من المحرمات السياسية والاجتماعية، يرسلون الآن بحماس أطفالهم -- بين 200 ألف إلى 300 ألف سنويا-- للدراسة في الولايات المتحدة. كما نبذ الأمريكيون ما يسمى بـ"الرعب الأحمر" وبدأوا في احتضان الكونغ فو الصيني والباندا العملاقة وحتى تعلم اللغة الصينية، حيث يتعمق فهمهم لما كانت "دولة شيوعية غامضة" بنظرهم ذات يوم.
وبات المحيط الهادئ، الذي كان يستخدم كـ"خندق طبيعي" لإعاقة النقل المباشر بين البلدين، يشهد الآن أكثر من 300 رحلة بينية مباشرة أسبوعيا تنقل ما يزيد على 5 ملايين زائر سنويا.
وتأتي الذكرى الـ40 للعلاقات الدبلوماسية الصينية-الأمريكية في أعقاب الذكرى الـ40 لإصلاح وانفتاح الصين. ولا يعود النجاح الاقتصادي الهائل والتقدم الاجتماعي في الصين خلال السنوات الـ40 الماضية بشكل رئيسي إلى اجتهاد وإبداع وتفاني الشعب الصيني فحسب، ولكن أيضا الاستفادة من دعم ومساعدة بقية دول العالم، بما في ذلك الولايات المتحدة.
وفي المقابل، لم تتوقف الصين التي تتطور بسرعة عن الاندماج مع العالم أوسع ولعبت دورها كعضو مسؤول في الأسرة الدولية. فعندما اندلعت الأزمة المالية في 2008، أخذت الصين، بروح كلنا في نفس القارب، إجراءات سريعة وشاركت الآخرين في جهود منسقة لاحتواء الأزمة وإعادة الولايات المتحدة، التي ضُربت بشدة، والاقتصاد العالمي إلى المسار الصحيح.
وبعد مرور 40 عاما، يتبين أن التعاون، الذي لم يكن ربما سوى خيار واحد من خيارات عديدة أمام الصين والولايات المتحدة منذ اليوم الأول لعودة علاقتهما، هو الخيار الأفضل والصحيح الوحيد. فالتعاون لم يخلق فرصا تنموية هائلة ويحقق منافع كبيرة للبلدين والشعبين فحسب، وإنما ساعد على إعادة رسم النظام العالمي وتسريع العولمة وتحسين الحوكمة العالمية، وبالتالي خدم كقوة دفع رئيسية للسلام والرخاء العالميين.
لا شك أن العقود الـ4 الماضية لم تكن رحلة سلسة للعلاقات الصينية-الأمريكية. فحتى علاقاتهما الاقتصادية والتجارية، التي اشتهرت كـ"حجر صابورة للعلاقات الثنائية" شهدت تقلبات ومنعطفات، على خلفية "القيود الصارمة على حصص الملابس والمنسوجات" والمراجعة السنوية المملة لوضع" الدولة الأكثر رعاية" والمحادثات المطولة بشأن انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية، وكذلك الاحتكاكات الاقتصادية والتجارية الجارية. كما يبدو أن الجدل لن يتوقف في الولايات المتحدة بشأن إذا ما كان ينبغي النظر إلى الصين كـ"شريك" أو"تهديد" وإذا ما كان ينبغي على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية" التعاون" أو "الاحتواء".
من الطبيعي أن توجد بين دولتين تتمتعان بنظم اجتماعية ومسارات تنموية وخلفيات تاريخية وثقافية مختلفة مثل الصين والولايات المتحدة خلافات وتواجهان مشكلات. بيد أن مثل هذه الخلافات والمشكلات لم تمنع البلدين من تطبيع العلاقات الثنائية قبل 40 عاما، ولا يجب أن يسمح لها بتعطيل التنمية السليمة للعلاقات الثنائية اليوم.
وكبلدين كبيرين يضمان شعبين عظيمين، فإن الصين والولايات المتحدة بحاجة إلى عدم الخوف من أي منافسة عادلة ومنطقية وصحية، بل ينبغي لهما التحلي بما يكفي من الذكاء لتجنب الألعاب الصفرية، التي تنطوي على مخاطر عالية تجر البلدين إلى وضع خاسر يتسم بالصراع والمواجهة.
وفي وقت يشهد فيه العالم تغيرات عميقة لا مثيل لها وتحفه المخاطر والشكوك، يتوقع المجتمع الدولي تعاونا أوثق بين الاقتصادين الكبيرين، للمساعدة على تعزيز استجابة البشرية لتحديات مشتركة عديدة، مثل التغير المناخي والإرهاب الانتشار النووي والجرائم العابرة للأوطان.
وبعد مرور 40 عاما، تعود العلاقات الصينية-الأمريكية مرة أخرى إلى نقطة حرجة، تترك العديد على أحر من جمر أو في حالة من التكهنات. وإذا كان هناك أي دليل يمكن الاسترشاد به خلال السنوات الـ40 الماضية، فإن تعزيز التفاهم والتعاون متبادل النفع من شأنه أن يؤدي إلى التغلب على المصاعب والتحديات، وينبغي أن يظل التعاون في جوهر العلاقات الثنائية على المدى الجديد.
من المريح والمشجع أن شي وترامب، في تبادلهما لبرقيات التهنئية بمناسبة الذكرى ومناسبات أخرى عديدة من التفاعل رفيع المستوى، تعهدا بالدفع من أجل مزيد من التعاون وتعزيز تقدم العلاقات الصينية-الأمريكية.
وقال شي في برقيته إن التاريخ أثبت أن التعاون هو الخيار الأفضل للجانبين، في حين قال ترامب أن أولويته هي تعزيز علاقات تعاونية وبناءة بين الصين والولايات المتحدة.
ومن مار إي لاغو إلى بكين وبوينس آيرس، لعبت الاجتماعات والاتصالات المباشرة بين الزعيمين، في وجود علاقة وكيمياء شخصية جيدة بينهما، دورا لا غنى عنه في استكشاف العلاقات الثنائية في مياه مجهولة. ويعلق العالم آمالا كبيرة على نجاحهما.