يعتقد بعض الساسة الأمريكيين أن العالم يمثل خشبة مسرح لآداء أمريكي منفرد، وأن القواعد الدولية هي مجرّد دمى متحرّكة بيد أمريكا التي تكتب السيناريو وتحدد تطور اثارة الأحداث، لأنها في البدء والنهاية أمريكا. لكن عن أي عدالة يمكن أن نتحدث في ظل هذا المنطق؟ وبماذا يمكننا حماية النظام الدولي الذي لم يكن من الهيّن تأسيسه؟
نرى في الوقت الحالي بعض الساسة الأمريكيين يتحدثون من جهة عن مبدأ المنافسة العادلة، ومن جهة ثانية يتذرّعون بحجة "الأمن القومي" لضرب شركات الدول الأخرى. ومن جهة يسلّطون ضغوطات قصوى تتجاوز الآليات متعدّدة الأطراف ليضعوا قوانينهم فوق القوانين الدولية، ومن جهة ثانية يتهمون الدول الأخرى بعدم احترام القواعد.
في الحقيقة، إن الأمثلة على عدم التزام أمريكا بوعودها كثيرة جدا، وعلى سبيل الذكر: انسحابها من منظمة التربية والعلوم، انسحابها من مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، انسحابها من اتفاقية التجارة العابرة للمحيط الأطلسي، انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ والاتفاق العالمي للمناخ والإتفاق النووي الإيراني. وفي هذا الصدد، قال رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك، "إن النظام الدولي المبني على القواعد يتعرض للتهديد. والصادم هو أن هذا التهديد يأتي من الدولة التي تؤسس وتقود هذا النظام."
لقد قادت الولايات المتحدة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عملية تأسيس نظام دولي مبني على القواعد. لكن بعد أن رأى بعض الساسة الأمريكيين أن الوضع الحالي للنظام الدولي لم يعد يناسب مصالح التفوق الأمريكي بشكل تام، قامت أمريكا بقلب الطاولة، وقررت تحويل النظام الدولي إلى شريعة الغاب، يأكل فيه القوي الضعيف.
يتعامل الساسة الأمريكيون مع القواعد الدولية بانتقائية، حيث يلجؤون إليها حينما تخدم مصالح أمريكا ويتخلّون عنها حينما لا تكون في مصلحة أمريكا. وهوما يجعل القواعد الدولية وكأنها دمية متحركة في يد أمريكا، ويكشف الموقف الأناني للساسة الأمريكيين. إذ لا يترددون عن استعمال قواعد غير مقبولة من مختلف الدول الأخرى في سبيل تعظيم مصالح بلدهم إلى أقصى الحدود، والعمل على ترك الدول النامية تقبع دائما في أسفل السلسلة الصناعية. وفي هذا الصدد يظهر تقرير بحثي صادر عن منظمة التجارة العالمية، أن أمريكا تعد الدولة الأكثر عدم احتراما للقواعد، وأن ثلثي خروقات القواعد المسجّلة في منظمة التجارة صادرة عن أمريكا.
وهو ما دعا رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد للقول على هامش مؤتمر "مستقبل آسيا" الذي عقد مؤخرا: "إن أمريكا تريد تفوقا أبديا، وإذا لم تكن في وضع تفوق، تلجأ إلى العقوبات أو الغزو العسكري. فهذه ليست منافسة وإنما تهديد."
لكن بعض الساسة الأمريكيين قد بالغوا في تقدير أنفسهم والاستخفاف بالآخرين، ولم ينتبهوا إلى تغيرات العصر. وأن السلام والتنمية قد تحولا إلى تيار لا يمكن ايقافه، وأن مسيرة العولمة لا يمكن ان تتقهقر إلى الوراء. ومع التطور السريع لصناعة المعلومات ونهوض الدول الناشئة، شهدت قوى الانتاج العالمية والعلاقات الدولية تغيرات كبرى، وهو ما شكّل ميزات المرحلة الجديدة من العولمة الاقتصادية المتمثلة في "عولمة الغالبية"، والتي تقضي بالتعايش المشترك بين الدول المتقدمة والدول النامية.
في هذا السياق يرى أحد الباحثين اليابانيين أن استخدام أمريكا لمميزاتها الاحتكارية في الضغط على الشركات الصينية يعد سلوكا مخرّبا لقواعد اللعبة. وفي ذات السياق، قالت وكالة بلومبرغ نيوز الأمريكية أن السلوك الأمريكي يعد خطأ بالغ الخطورة. وحتى صحيفة نيويورك تايمز علقت قائلة بأن الجانب الأمريكي قد توصل مع عدّة دول إلى اتفاقيات تجارية جديدة، لكن لاحقا لجأ إلى إلغاء هذه الاتفاقيات لتحقيق أهدافا أكبر. ولا شك في أن السياسات التجارية الأمريكية الحالية ستمثل عقبة أمام نمو الاقتصاد العالمي وتضعف الثقة الاستراتيجية بين مختلف الدول.