4. الصين والعراق في ظلِّ مبادرة الحزام والطريق
تتميز العلاقات العراقية – الصينية بامتدادها التاريخي وعلى مدى جميع حِقَبهِ وعصورهِ. تبلورت وتشكَّلت ملامحها الواضحة مع بدايات نشأة الدولة العربية الإسلامية، واتخاذها مدينة بغداد عاصمةً لها، منذ بدايات القرن الثامن الميلادي. لتبدأ مرحلة العلاقات التجارية بأوسع نطاقٍ لها مع ما شَهِدته من نموٍّ فاق الأوصاف لطريق الحرير الذي ربط بكين ببغداد على مدى قرونٍ عديدة. وبفضل هذهِ الروابط والعلاقات – التي بدأت اقتصادية بحتة – شجَّعت العديد من التجار والعلماء العرب للتنقل والاستقرار في مدن الصين المختلفة، ما أدى بالتالي لتعميق أواصر العلاقات الثقافية والعلمية، وحتَّى الدينية بين الشعبين، حيث تمتلئ السجلَّات التاريخية بالكثير من الشواهد على عُمق وودِّية العلاقات بين العراق والصين.
ورغم بعض التذبذب في العلاقات على مدار القرون الماضية، من حِقبة التاريخ الحديث؛ بسبب ظروفٍ خاصة مرَّ بها العراق، ظلَّت الصين دوماً مساندة للعراق تدعم استقلاله وسيادته وحريته وحقَّ شعبهِ في تقرير مصيره، كما هو موقفها من كلِّ شعوب العالم. لتبدأ مرحلةً جديدة من العلاقات السياسية بين الطرفين، وتحديداً في آب/أغسطس من العام 1958م، حينما تمَّ تبادل الاعترافات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية العراق بأحدهما الآخر.
وبعد ستين عاماً من العلاقات الودية والإيجابية، نرى ضرورة التمسك بدفع عجلة هذهِ العلاقات نحو الأمام، وبضرورة العمل على إطلاق العنان لها وتفعيل مضامين هذهِ الشراكة المتميزة، وخاصةً تعهدات الصين بالمُشاركة الفعلية والفعَّالة في إعادة الإعمار الاقتصادي للعراق، ثمَّ الانطلاق لتمهيد الطريق لمزيدٍ من التعاون والتبادلات الاقتصادية والعلمية والثقافية لترقية هذهِ الشراكة إلى شراكةٍ إستراتيجية شاملة، بحيث تكون أوسع وأعمق وأطول مدىً.
منذ العام 2013م أطلقت الصين مبادرة الحزام والطريق Belt and Road Initiative، أو طريق الحرير الجديد، قائلةً إنَّه يمثل حجر الزاوية للسياسة الاقتصادية الصينيَّة.
ويهدف المشروع الصيني إلى تحسين الروابط التجارية العابرة للقارات عِبرَ بناء مرافئ وطرقات وسكك حديدية ومناطق صناعية. وطريق الحرير البحري هي إستراتيجية تنموية تعتمدها الحكومة الصينية وتتضمَّن تطوير البُنية التحتية والاستثمارات في (152) دولة ومنظمة دولية في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وأفريقيا.
أسَّست الصين رؤيتها - التي تريد أنْ تغيِّر بها وجه آسيا لتنقلها إلى عصور الحداثة - على مشروعٍ قديم عمره يزيد على ألفي سنة، ألا وهو (طريق الحرير). هذا الطريق الذي كان يمتد من الصين عِبرَ آسيا الوسطى إلى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحراً إلى أوروبا التي كانت تستقبل البضائع الآسيوية الثمينة حينها من البهارات والخزف والحرير الصيني.
طرحت الصين في مبادرتها حلولاً لمشاكل مُزمنة عانت منها عقوداً. ومن هذهِ المشاكل تمكين الولايات الداخلية من الانخراط في الاقتصاد العالمي، وربط وتعزيز انتماء الولايات الحدودية إلى المركز وزيادة مساواتها الاقتصادية، وخصوصاً مناطق شينغيانغ Xinjiang، والتبت Tibet.
في عام 2015م؛ أعلنت الحكومة الصينية ورقةً تُسمَّى (خطَّة تشغيليَّة لمبادرة الحزام والطريق)، تضمَّنت الخطوط العريضة للمُبادرة التي دعت دول آسيا والعالم إلى الانضمام إليها، وجعلت المشاركة في البنك الآسيوي لتنمية البُنية التحتية - الذي تُساهم الصين بحصة الأسد فيه - المدخل للمُشاركة في هذهِ المبادرة.
وقد بلغ اليوم عدد المشاركين فيه قرابة السبعين دولة، وليست كلُّها دولاً آسيوية أو دولاً من العالم الثالث؛ بل شاركت فيها دول أوروبية كألمانيا وبريطانيا مثلاً.
كما أنشأت بكين صندوقاً لتمويل المشاريع المرتكزة على المبادرة سمَّته (صندوق طريق الحرير)، وقد اختلف الخبراء في تقدير القيمة المتوقعة لمشاريع المبادرة اختلافاً كبيراً، إذ إنَّ بعضهم يُقدِّر التكلفة بنحو تريليون دولار، وآخرين يُقدِّرونها بثمانية تريليونات دولار أميركي، وينبع هذا التفاوت أساساً من أنَّ المبادرة ما زالت في مرحلة سيولة، ولم يتحدَّد بشكلٍ نهائي الشركاءُ فيها والمشاريعُ التي سيتم تبنيها.
تُشير الخطط الأولية للمُبادرة إلى أنَّ الخطوط التي تمَّ تبنيها (ستة خطوط) يمر نصفها أو ينتهي على ضفاف البحر الأبيض المتوسط عِبرَ الشرق الأوسط والبلدان العربية، وهذا ما يجعل الصين تولي هذهِ المنطقة عنايةً كبيرة في خطَّة العلاقات العامة التي تُمارسها لإقناع العالم بالمبادرة.
ولعلَّ أكثر ما يميز السياسة الخارجية الصينية في الشرق الأوسط هو تركيزها على تهدئة هذهِ المنطقة، التي توصم عادةً بعدم الاستقرار بسبب الحروب والثورات الداخلية، وذلك بدعمها للأنظمة الحاكمة.
فبكين لا تهتم بطبيعة النظام الحاكم من الناحية الأيديولوجية أو العِرقية أو الطائفية، بل كل ما يهمها هنا هو تأمين أكبر قدر من الاستقرار الأمني، بحيث تستطيع الطرق وسكك الحديد والموانئ وأنظمة الاتصالات والمدن التجارية الحرة أنْ تزاول عملها بسلاسةٍ وأمان، وهي مستعدة لتقديم كلِّ مساعدةٍ ممكنة لتلك الأنظمة اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً لتحقيق ذلك.
وعلى هذا الأساس، يمكن تلخيص رؤيتنا التي نصبو من خلالها لتكريس مشاركة العراق بهذا المشروع، الاقتصادي في الدرجة الأولى، العالمي، بمجموعة النقاط التالية:
1. تسليط الضوء، وفق دراساتٍ وأبحاث علميةٍ رصينة، على العلاقات العراقية – الصينية في مختلف حِقَب التاريخ وعلى كافَّة المجالات، وصولاً إلى وقتنا الحاضر حيث وصلت هذهِ العلاقات حدوداً كبيرة من السعة، ولاسيَّما في الجوانب التجارية والاقتصادية.
2. البحث عن الرؤية المشتركة لكلٍّ من العراق والصين فيما يتعلَّق بالحفاظ على سيادة العراق وبناء نظامٍ سياسي يُتيح المجال أمام تحقيق الاستقرار والتنمية.
3. البحث في سُبُل زيادة برامج الدعم العلمي والفني والتقني من قبل الحكومة الصينية للحكومة العراقية ومؤسَّساتها المختلفة، بهدف تطوير أداء الجهاز الإداري وتفعيل الشفافية، والجهاز الإنتاجي، ومؤسَّسات القطَّاع الخاص.
4. البحث في سُبُل وآليات تكثيف الصين لعلاقاتها الثقافية مع العراق عِبرَ البعثات العلمية والمنح البحثية، وتعزيز التعاون العلمي مع المؤسَّسات والجامعات العراقية، وتبادل الخبرات الأكاديمية، وصولاً إلى ما يُسمَّى بـ(الدبلوماسية الشعبية) التي تُتيح لجميع شرائح المجتمع العراقي من الاطلاع على حالة التطور العلمي والحضاري في الصين، والتأثر بالتجربة الصينية في الحداثة والتقدم.
5. تقديم دراساتٍ أكاديمية متخصِّصة حول مبادرة الحزام والطريق، هذا المشروع الكبير الذي أعلن عنه الرئيس الصيني (شي جين بينغ) منذ العام 2013م. والبحث في أبعاد هذا المشروع الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها على العراق بوصفهِ واحداً من الشركاء الرئيسيين فيه.