"لو أتيح لي عمر آخر، فسوف أكرس حياتي مرة أخرى لأعمال بحوث وترجمة روائع الأدب العربي، بل وتدريسها للصينيين"، هكذا تحدث الأستاذ تشونغ جي كون (واسمه العربي صاعد) الرئيس الشرفي لجمعية بحوث الأدب العربي في الصين بنبرة تنمّ عن مشاعر صادقة.
يعد الأستاذ تشونغ بمثابة أيقونة بين الأكاديميين الصينيين المتخصصين في بحوث وترجمة الأعمال الأدبية العربية، ويذيع صيته بين المثقفين العرب وعشاق الأدب الصينيين حيث نال ألقابا وجوائز عدة في الصين والعالم العربي تقديرا وتكريما له على أعماله البحثية العميقة وترجماته الرائعة.
التحق تشونغ بجامعة بكين، أعرق وأشهر الجامعات في الصين، عام 1956 لدراسة اللغة العربية. وعندما عاد بالزمن إلى الوراء ليتذكر سبب اختياره العربية كتخصص دراسي في الجامعة، قال إن ذلك يرجع إلى إعجابه منذ صغره إعجابا شديدا بروايات ((ألف ليلة وليلة)) وكذلك عقده العزم على التضامن مع العرب طوال حياته بعدما شجعه على ذلك نجاح أبناء الشعب المصري في تأميم قناة السويس وكفاحهم ضدّ "العدوان الثلاثي ".
واستفاد تشونغ كثيرا من أساتذته المسلمين الذين كانوا من خريجي الجامعة الأزهرية في ثلاثينات القرن الماضي واعتبروا روّادا في تدريس اللغة العربية في الجامعات والمعاهد الصينية، إذ أدخلوا هذا التدريس من الجامع الي الجامعة منذ عام 1946. و"كان هؤلاء الأزهريون يأخذون بعين الاعتبار جانبي النطق والنحو بل ويجيدونهما، وبالتالي ساهموا في إرساء أساس وطيد في المستوى المرتفع نسبيا لتعليم العربية بالصين"، على حد قوله.
ونظرا لكونه أبرز الطلاب في ذلك العهد، فقد تم ترشيحه للانضمام إلى هيئة التدريس بقسم اللغة والثقافة العربية فور تخرجه في جامعة بكين عام 1961. وفي نفس العام ترجم قصّة للكاتبة السورية الشهيرة ألفة إدليبي بعنوان ((ماتت قريرة العين)) حول نضال الشعب الجزائري ضد المستعمرين الفرنسيين وقد نشرت في مجلة ((الآداب العالمية)).
ولكن بسبب الأوضاع السياسية التي صاحبها خفوت لصوت المثقفين قبل بدء مسيرة الإصلاح والانفتاح في أواخر سبعينات القرن الماضي، لم يجرؤ الأستاذ الصيني خلال تلك الحقبة على إطلاق العنان لموهبته الأدبية علنا، لذا أخذ يقرأ كل ما يقع في متناول يديه من الكتب الأدبية العربية خلسة.
وفي عام 1978حصل الأستاذ الصيني على فرصة لاستكمال دراسته في كلية الآداب بجامعة القاهرة كباحث زائر. وخلال مكوثه في مصر، أنتهي من ترجمة رواية ((في بيتنا رجل)) للكاتب المصري إحسان عبد القدوس ومختار القصص القصيرة للكاتب اللبناني ميخائيل نعيمة.
وآنذاك، زار في وقت فراغه عددا من الكتاب المصريين المشهورين وأنشأ صداقة شخصية معهم، من بينهم علم الأدب المصري نجيب محفوظ، الذي يعلق تشونغ عليه قائلا "أرى شخصيا أن لا أديب في العالم يضاهيه من حيث الأفكار الفلسفية وأبعاد المحتويات العميقة وأساليب الإبداع الفني التي تعكسها أعمال الأديب الكبير".
وبعد عودته من مصر في عام 1980، بدأت قمة التألق الأكاديمي للأستاذ تشونغ. فتحول من تدريس اللغة إلى بحوث وتعليم الأدب العربي. ويقول "إنني كنت أحاول أن أقرأ كل ما يتعلق بالأدب العربي من الكتب المحفوظة في مكتبة جامعة بكين ومكتبة العاصمة لجمع المعلومات البحثية والتعليمية بشكل منتظم، كما اخترت من روائعها لتقديمها إلى القراء الصينيين"، بما في ذلك ((دمعة وابتسامة)) لجبران خليل جبران و((ألف ليلة وليلة)) و((مختارات الروايات القصيرة في مصر الحديثة)) إلخ.
ومن أبرز ترجماته ((مختارات الشعر العربي القديم)) الذي ضم 431 قصيدة أو قطعة شعرية لـ134شاعرا عربيا. ولاقت الترجمة إعجابا كبيرا وتقديرا عاليا في الأوساط الأكاديمية الصينية التي علقت عليها قائلة إنها "تعكس ملحمة كاملة للشعر العربي القديم ويمكننا من خلالها أن نستشعر جاذبية المجتمع العربي ونطلع على العالم الروحاني للعرب وظواهر مجتمعهم على مجرى التاريخ."
وطوال حياته التعليمية والترجمية، ظل ينكبّ على بحوث الأدب العربي. ومنذ بداية القرن الجديد نشرت على التوالي ثلاث مؤلفات أكاديمية له وهي ((تاريخ الأدب العربي الحديث )) (2004) و((تاريخ الأدب العربي الكامل)) (مجلدين، 2010) و((تاريخ الأدب العربي القديم)) (مجلدين،2015). وحصل نتاج هذا الجهد على جائزتي الأعمال البحثية الممتازة للجامعات والمعاهد الصينية من الدرجتين الأولى والثانية.
وعلاوة على ضخامة حجم مؤلفاته الثلاثة الأكاديمية ، فإن كتاب ((تاريخ الأدب العربي الكامل)) الذي يحتوي على مليون مقطع صيني، يتسم بشمولية المضامين من حيث البعدان الزماني والمكاني، إذ يتناول الفترة الممتدة من عهد الجاهلية وحتى مطلع القرن الـ21 فيما يعرف القراء بكبار الأدباء وأعمالهم الرئيسية في كل دولة عربية. وبالتالي يعتبر الكتاب الأول من نوعه في الصين وحتى العالم.
كما لم يدخر الأستاذ الكبير جهدا في تشجيع التبادلات الثقافية الصينية- العربية حيث وصف الحضارة الصينية والحضارة العربية الإسلامية بـ"منارتين تضيئان العالم في القرون الوسطى"، مشيرا إلى أن "مؤثرات الثقافة والحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى قد أيقظت أوروبا ومهّدت لها سبيل نهضتها الحديثة. فلولاها لما كانت نهضة أوروبا الحديثة".
وأعرب الأستاذ الصيني عن حبه العميق واحترامه الفائق لمن قاموا بإنشاء الحضارة العربية الإسلامية ، قائلا إن "الشعب العربي مجتهد وشجاع ومحب للسلام شأنه شأن الشعب الصيني. وأوجه التماثل بين الشعبين أكثر من أوجه التباين. لذا لابد لنا من التعلم والاستفادة من بعضنا البعض لتوسيع التعاون ذي المنفعة المتبادلة على الدوام."
وبفضل أعماله المتميزة في بحوث الأدب العربي وترجمة روائعه، مُنح الأستاذ الصيني، البالغ من العمر 77 عاما، جائزة استثنائية من قبل وزارة التعليم العالي المصرية في عام 2005، كما نال جائزة الشيخ زايد للكتاب (شخصية العام الثقافية)وجائزة خادم الحرمين عبد الله بن عبد العزيز العالمية للترجمة لعام 2011 (أحد المكرمين) ليصبح أول صيني يحصل على هاتين الجائزتين الكبيرتين.
وأمام هذه التكريمات التي تعد شرفا كبيرا بالنسبة لأي أكاديمي وخاصة أكاديمي غير ناطق بالعربية، قال الأستاذ تشونغ بتواضع جم إن "الأدب العربي بحر خضمّ يتعذر كشف مدى عمقه. فما تعلمته وما أجريته من بحوث لا يشكل سوى قطرة من مياهه".