بكين 22 ديسمبر 2017 /افتتحت الصين هذا الأسبوع أكبر سوق كربون على مستوى العالم، ما يمثل أحدث إجراء في إطار سلسلة من الاجراءات العملية التي أطلقتها أكبر دولة نامية في العالم في إطار المعركة ضد التغير المناخي.
ويمثل البرنامج الجديد الشعور القوي بالمسوؤلية لدى الصين بوصفها دولة كبرى في العالم، ويجسد أيضا فلسفة الرئيس الصيني شي جين بينغ التي أكد عليها في بداية هذا العام في مدينة دافوس الواقعة بجبال الألب في سويسرا.
وفي كلمته التاريخية خلال المنتدى الاقتصادي العالمي، عرض شي رؤيته حول كيفية قيادة وتوجيه الاقتصاد العالمي للخروج من الصعوبات التي يمر بها من خلال تنسيق الجهود. وحث شي أعضاء المجتمع الدولي على تحمل المسؤوليات التي تواجههم في هذا الزمن.
ووصف رئيس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب كلمات شي الملهمة بانها "إشراق" في وقت سادت فيه غيمة الشك والتقلب.
أزمة المسؤولية
لا يخلو التاريخ من فترات حرجة تجعل دول العالم الكبرى مطالبة باتخاذ إجراء مسؤول.
وبالمفهوم السياسي، تشكل العالم الحديث على يد القوى الغربية عبر قرون من الحروب الوحشية والمدمرة وكذا عبر الصراعات من أجل فرض الهيمنة. وفي أغلب الأوقات، كانت هذه القوى تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة بشكل أناني تحت إدعاء "السعي نحو الصالح العام".
وكتب إدوارد هاليت كار، أحد علماء السياسة والمؤرخين البريطانيين، في كتابه الكلاسيكي عن العلاقات الدولية بعنوان "أزمة العشرين عاما"، "هذا النوع من النفاق هو سمة خاصة مميزة للعقلية الأنجلو-ساكسونية."
وأوضح مثال على ذلك في التاريخ الحديث هو الحرب العراقية. فمن أجل ضمان وجودها الاستراتيجي في المنطقة، ذهبت الولايات المتحدة لكي تحارب في العراق معتمدة على معلومة استخباراتية واحدة مُختلقة، وبوعد كاذب بأنها ستحرر العراق من الطغيان.
واليوم، وبعد 14 عاما من بدء هذه الحرب، لا يزال العراق يعاني من الأزمات على عدة أصعدة، وآفاق السلام في الشرق الأوسط الأوسع لا يمكن أن تكون أكثر إظلاما مما هي عليه.
وشهد العام الماضي أيضا كيفية تأثير طريقة قوة عظمى، من حيث التحرك من جانب واحد، على بقية المجتمع الدولي. ففي أقل من عام في منصبه، انسحب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بواشنطن من معاهدات دولية هامة واحدة بعد الأخرى.
وبرفع شعار "أمريكا أولا"، اتهم ترامب أغلب الشركاء التجاريين للولايات المتحدة - إن لم يكن كلهم - باستغلال الولايات المتحدة لصالحهم، وهدد بإعادة التفاوض من أجل التوصل إلى ما سماه اتفاقيات "أكثر عدلا".
هذا الاتجاه القائم على الأحادية زاد من حدة المخاوف المنتشرة، في وقت يشهد حاجة إلى التعددية للتوفيق بين مصالح كافة الأمم التي تتشابك مع بعضها البعض بشدة.
رؤية مشتركة
في خطاب شي في منتدى دافوس، الذي حث فيه على التجارة الحرة والاقتصاد المفتوح والعولمة، يوضح شي توجهه القائم على التعددية من أجل نمو عالمي مزدهر وينبع من رؤيته الخاصة ببناء مجتمع مصير مشترك للبشرية.
ومنذ أن قام شي بطرح هذه الفكرة الشاملة أمام العالم للمرة الأولى عام 2013 في خطاب بمعهد موسكو للعلاقات الدولية، سعى شي تدريجيا إلى تجسيد هذه الفكرة وتوضيحها على مدى السنوات.
وقال شي في تقريره الهام في المؤتمر الوطني الـ 19 للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في أكتوبر "عالمنا مليء بالامل والتحديات في الوقت ذاته. لا تستطيع دولة بمفردها مواجهة التحديات الكثيرة التي تواجه البشرية، ولا تستطيع أية دولة في الوقت نفسه أن تنسحب إلى نوع من العزلة."
وفي هذه الحقبة من التحديات والمخاطر المتزايدة مثل التغير المناخي والارهاب الغاشم وتزايد الحمائية التجارية، يرسم مقترح شي طريقا واضحا وعمليا للمضي إلى الأمام.
وقال جيرهارد ستول، الأستاذ الزائر بجامعة ((كلية أوروبا)) في بروج ببلجيكا، "بيننا مصير مشترك ... يجب علينا أن نطور سياستنا القائمة على المصالح المشتركة. وهذا سيمثل نقطة بداية جيدة."
وفي رأي شي، يتعين أن يقوم مجتمع مصير مشترك للبشرية على الاحترام المتبادل والتنوع والحوار القائم على المساواة والتعايش السلمي بين الحضارات المختلفة. ولا يتعين تقرير النظام العالمي من قبَل بلد واحد أو بلدان قليلة، وإنما يجب أن يكون هناك توافق دولي واسع.
وقال وليام جونز، رئيس مكتب مجلة ((المراجعة الاستخباراتية التنفيذية)) في واشنطن، إن مقترح شي "محاولة من جانب الرئيس الصيني للتغلب على المفهوم التقليدي "للجغرافيا السياسية" وكذا استبدال هذا المفهوم الذي يعتمد على أنه يجب أن يكون هناك دائما "رابحون" و"خاسرون"، وهو المبدأ الذي تسود على أساسه فكرة "القوة تصنع الحق".
وتابع قائلا "وفق هذا المفهوم الجديد، كل طرف بإمكانه أن يلعب دورا، والمكاسب التي يحققها بلد ما تعود بالنفع على البلدان الأخرى."
من الفلسفة إلى الواقعية
السياسة الخارجية التي يتبناها الرئيس الصيني ليست أملا بعيد المنال، ولكنها توجيها إرشاديا نحو إنجاز عمل واقعي. فعلى مدى السنوات الخمس الماضية، قام شي بعدد من الاجراءات العملية من أجل تحويل هذه الفكرة إلى واقع ملموس.
ومن بين هذه الإجراءات مبادرة الحزام والطريق البارزة، التي اقترحها شي عام 2013 بهدف تحقيق ارتباطية في السياسات والبنية الأساسية والتجارة والمالية والتبادلات الشعبية، على طول الطرق التجارية لطريق الحرير القديم وما وراءه، عبر بناء منصة جديدة للتعاون الدولي بهدف خلق محركات نمو جديدة.
وخلال منتدى الحزام والطريق للتعاون الدولي الذي عقد في مايو، أكد شي مجددا على أن الصين ترغب في أن ينضم العالم إلى بناء مبادرة الحزام والطريق لتصبح طريقا للسلام والازدهار والانفتاح والابتكار.
وقد لعب شي دورا هاما في تحسين الحوكمة العالمية. فبكين تحث على أن يكون للعالم النامي صوتا مسموعا على نحو أوضح في الهيئات العالمية الهامة. وبذلت الصين جهودا مخلصة في سبيل بناء نمط جديد للعلاقات الدولية يقوم على الاحترام المتبادل والنزاهة والعدل والتعاون متبادل النفع بين كافة البلدان.
وفي سبيل الحفاظ على السلام العالمي، تعد الصين من أكبر المساهمين في بعثات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وتعمل الصين باطراد على تحقيق التسوية السلمية للقضايا الساخنة على مستوى العالم.
وقال ديفيد شامبو، الزميل البارز بمؤسسة ((بروكينجز))، "دور الصين المتنامي في الحوكمة العالمية إيجابي للغاية وأحد الأوجه الجديرة بالملاحظة في السياسة الخارجية للرئيس شي."
عندما تحدث الرئيس شي أمام منتدى دافوس، أشاد العالم بالصين بوصفها "صخرة الاستقرار" وسط عالم من الشكوك. والآن، تمضي الصين قدما وفق الخطة الطموحة التي أقرها المؤتمر الوطني للحزب الشيوعي الصيني وتتعاظم التوقعات بالنسبة لزيادة اسهامات الصين في تحقيق التنمية العالمية.
إن التاريخ الحديث أظهر لنا بجلاء أن الصين لن تتخلى أبدا عن مسؤولياتها الدولية، ناهيك عن أنها حددت هدفا ببناء عالم مفتوح وشامل ونظيف وجميل ينعم بالسلام الدائم والأمن الشامل والرخاء المشترك.
وفي رأي شي، كون دولة ما دولة كبرى خلال هذا العصر الجديد لا يعني فرض السيطرة على الآخرين. إنما يعني ذلك "تحمل أكبر للمسؤوليات من أجل السلام والتنمية على المستويين العالمي والإقليمي"، بحسب ما قال شي في كلمته الرئيسية بمنتدى بواو الاسيوي 2015.